رحيل كنزابورو أوي.. الكتابة من أجل كرامة الانسان

رحيل كنزابورو أوي.. الكتابة من أجل كرامة الانسان

علي حسين

بعد ساعات من سماعي خبر رحيل الكاتب الياباني الحائز على جائزة نوبل " كنزابورو أوي،" – توفي في الثالث عشر من آذار عام 2023 - سارعت ابحث في معرض اربيل الدولي للكتاب عن واحدة من اعماله الادبية، وجدت روايته " الموت غرقا " في جناح شركة المطبوعات" بترجمة أسامة أسعد،

وقررت ان امضي الليل مع بطلها،الكاتب الذائع الصيت "كوغيتو " الذي وجد نفسه يرغب بكتابة رواية عن حادث موت ابيه غرقا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث يقرر العودة الى قريته للحصول على صندوق يحوي وثائق متعلقة بابيه، وحادث موته غرقا، فياخذنا من خلال هذه الحكاية في اسئلة سياسية وفلسفية حول الاوضاع التي مرت ببلاده وعن ابيه وانتماءاته الفكرية، ومن خلال الصندوق يكشف لنا كنزابورو أوي خفايا تلك المرحلة، ويثير عددا من التساؤلات عن حكاية الغريق والاسباب الذي دفعته للابحار بقاربه وسط فيضان كان يهدد القرية – اليابان – بالغرق، وهل استطاعت تضحية الأب ان ترأب الصدع في الحياة الاجتماعية التي تعيشها اليابان والتي وصفها في خطابه اثناء تسلمه جائزة نوبل للاداب عام 1994 بانها بلاد "منقسمة بين قطبين متعارضين من الغموض"، التقليد والحداثة، عبادة الإمبراطور والديمقراطية، العدوان والمعاناة. مؤكدا ان هذا الانقسام أثر في كل جانب من جوانب حياته ككاتب "مثل ندبة عميقة"، ولهذا ظل يؤمن ان وظيفته ككاتب هي استخدام الادب للمساعدة في التآم هذا الجرح.توصف " الموت غرقا " بانها سيرة ذاتية نجد فيها " كنزابورو أوي " يتوارى خلف قناع بطل الرواية. انها حكاية الطفل كنزابورو الذي فقد والده اثناء الحرب العالمية الثانية، والتي ستلاحقه لعنتها فينجب ابنا " معاق " بسبب اشعاعات القنبلة النووية التي اطبقتها امريكا على بلاده.

عندما قرأ هنري ميللر رواية كنزابورو أوي " الصرخة الصامتة " – ترجمها الى العربية سعدي يوسف – وصف أوي بدوستويفسكي اليابان، الكاتب الذي يتارجح بين "نطاق الأمل واليأس"، بينما أشار إدوارد سعيد، وقد ارتبط بصداقة مع كنزابورو أوي استمرت 20 عاما، إلى "قوته غير العادية في التفاهم المتعاطف". فيما قال عنه الحائز على نوبل كازو إيشيغورو بأنه " متواضع، ومنفتح وصادق بشكل مدهش، وغير مهتم أبدا بالشهرة"، وكان الناقد الشهير هارولد بلوم قد اشار الى ان لغة كنزابورو تذكره بطريقة فوكنر الفذة في استخدام الكلمات.. لكن كاتبنا يصف نفسه بانه: " آخر مؤلف يمارس أسلوب الكتابة القديم، الثقيل جدا، أو الصادق".يكتب الحائز على نوبل الصيني مويان عن الإلهام الذي منحتنا إياه روايات كنزابورو الذي:" لم يسمح لرواياته بأن تتهاوى لتندرج تحت الأنماط التقليدية للروايات السياسية الضحلة ".

في " الصرخة الصامتة " يبدو تاثير سارتر والفلسفة الوجودية واضحا على كنزابورو، من خلال طرح موضوعة اليأس الوجودي الذي تعاني منه اليابان. تدور احداث الرواية حول شقيقين يعودان من طوكيو الى قريتهما من اجل بيع منزل الاسرة، لكن هذا الحدث يضعهما في مواجهة مع تاريخ الاسرة. وصف أوي نفسه بأنه كان وجوديا متحمسا في فترة الشباب شارك في التظاهرات المناهضة للأسلحة النووية وكتب العديد من المقالات حول مواضيع نزع السلاح النووي وعسكرة المجتمع، قال انه لن ينسى مواقف سارتر من حرية الشعوب وصورة الفيلسوف الوجودي الشهير وهو يقود التظاهرات ظلت ترافقه، عندما سافر الى باريس كان اول عمل قام به اجراء مقابلة مع سارتر الذي يصفه بانه:" كان شخصية رئيسية في حياتي، مثقف ساحر ".

ولد كنزابورو أوي في 31 كانون الثاني عام 1935 قرية بجزيرة شيكوكو، تقع غرب اليابان، وهو الخامس من بين سبعة أطفال،علمته جدته الاصغاء الى الحكايات الشعبية،ولكنها رحلت وهو في التاسعة من عمره، بعد ذلك سيفقد والده فى الحرب، أصبحت والدته هى المعلمة الأساسية له، يعترف بأنه لم يقرأ الكثير من الكتب قبل بلوغة التاسعة من عمره.:" كنت مفتونًا برواية حكايات جدتي. كانت تتحدث عن كل شيء تقريبا عن عائلتي ومنطقتى ؛ لذلك كان ذلك كافيا بالنسبة لي. لم أكن بحاجة إلى أي كتب في ذلك الوقت". ذات يوم سيكتشف مارك توين عندما قايضت امه كيلو غرام من الرز بكتاب صغير عنوانه " مغامرات هاكلبيري فين "، لم يكن قد سمع باسم مارك توين من قبل إلا ان والدته قالت له: "هذه أفضل رواية يمكن أن يقرأها طفل"، لكن المرأة التي قايضت الكتاب بالأرز حذرت امه قائلة: "انتبهي هذا المؤلف أمريكي. الآن الحرب بين الولايات المتحدة واليابان مستمرة. سيأخذ المعلم الكتاب من ابنك "، اوصته الام:" إذا سألك معلمك من هو المؤلف، فيجب أن تجيب بأن مارك توين هو الاسم المستعار لكاتب ألماني ".

نشأ على الاعتقاد بأن الإمبراطور كان إلها. يقول إنه غالبا ما كان يتخيله كطائر أبيض وقد صُدم عندما اكتشف أنه كان مجرد رجل عادي له صوت حقيقي عندما سمعه يعلن استسلام اليابان على الراديو في عام 1945.

كان في الرابعة من عمره عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وكان لتداعياتها تأثير كبير عليه طوال حياته. نشأ وهو يدرس الحكايات الشعبية التي رويت لأجيال في قريته، انتقل إلى طوكيو في سن 18 عاما لدراسة الأدب الفرنسي ليتعرف على كتابات سارتر وكامو اللذين كانا موضوع اطروحة تخرجه. عام 1957، عندما كان يبلغ من العمر 22 عامًا، نشر أربع قصص قصيرة، فازت إحداها بجائزة ادبية.

قال إنه عندما كتب رواياته الأولى " اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد" – ترجمها الى العربية ديمتري أفييرينوس- كان يقرأ الأدب الفرنسي والإنكليزي لمدة ثماني ساعات في اليوم ثم يكتب باللغة اليابانية لمدة ساعتين. في الحوار الذي نشرته "باريس ريفيو" أوضح: "من خلال القراءة باللغات الأجنبية ثم الكتابة باللغة اليابانية، أردت بناء جسر. لكن كتابتي أصبحت أكثر صعوبة"، في " اقتلعوا البراعم" يروي حكاية 15 مراهقا تم نقلهم من سجن الاصلاحية اثناء الحرب إلى قرية جبلية نائية، حيث يتعرضون للنبذ وسوء المعاملة والبغض من سكانها الذين فروا منها بعد انتشار الطاعون. وصفت الرواية بانها تحمل بصمة تشاؤمية واضحة.

غيرت ولادة ابنه الأول في عام 1963 حياته ومسيرته المهنية. حيث أنجبت زوجته، طفلاً بجمجمة مشوهة، كانت ولادة هذا الطفل بمثابة الكابوس الذي ظل يراوده بسبب الحرب، فوجده يتحقق امامه بأحد اولاده، فالحرب لم تهدم المدن فقط، لكنها شوهت البشر، وقد قدر لهذا الطفل ان يغير حياة ابيه، وسنجد في مجموعة الروايات القصيرة التي ضمها كتاب " علمنا ان نتجاوز جنوننا " – ترجمة كامل يوسف حسين – المعاناة التي يعيشها الانسان الياباني والصراع العميق بين انتمائه الى الماضي وانجرافه القسري الى الحاضر. وقد كتب في العام الذي شهد ولادة طفله المعاق رواية " مسالة شخصية " – ترجمة وديع سعادة - تناول فيها حياة طفل مختل المخ. بطل الرواية " بيرد " مثقف يعاني من زواج فاشل يحلم بالسفر الى افريقيا من اجل تغيير روتين حياته، لكن زوجته تضع طفلا " اجوف الرأس " يهدد بالقضاء على حلمه بالانعتاق من الماضي، يفكر بالخلاص من الطفل، لكنه يدرك أخيرا أنه يجب أن يتحمل مسؤوليته ويحتضنه.

عندما منح جائزة نوبل للاداب أشارت الأكاديمية السويدية إلى "القوة الشعرية" لأعماله قائلة إنه "يخلق عالماً متخيلاً تتكثف فيه الحياة والأسطورة لتشكيل صورة مقلقة للمأزق الإنساني ". كما اشار تقرير الاكاديمية إلى تأثير هزيمة اليابان على تطوره ككاتب. وان الإذلال سيطر عليه بشدة وأدى إلى تلوين الكثير من أعماله". "ونجده يصف رواياته بأنها طريقة لطرد الأرواح الشريرة.

تعتبر أعماله المبكرة، التي كتبها أثناء دراسته للأدب الفرنسي في جامعة طوكيو، بمثابة كلاسيكيات تعبر عن خيبة الأمل التي شعر بها الشعب الياباني عند رؤية ما فعلته القيادة اليابانية بالبلاد. يقول عند كتابة رواية جديدة:" ينشغل بالي بأمرين فحسب، أولهما كيفية مواجهة العصر الذي أعيش فيها، وثانيهما كيفية ابتكار أسلوب لا يتسنى لغيري كتابته ".

يتذكر كيف كانوا في المدرسة الابتدائية يلقنون الطلاب بالطاعة المطلقة للإمبراطور الذي يجب أن يموت الشعب من أجله، وهو الامر الذي جعله في عداء مستمر مع السلطة المطلقة، الامر الذي جعله يرفض عام 1994 تسلّم وسام الثقافة الياباني الذي يمنحه الإمبراطور، معلّقاً: "أنا لا أعترف بأية سلطة، لها قيمة أعلى من الديمقراطية".

قبل اعوام قال لماسل الغارديان انه يتذكر دائما حوار دار بينه وبين أمه أثناء طفولته، حيث كان يشعر بالقلق من أن يموت جراء المرض، فقالت له أمه: لا تقلق، إذا مت، فستلدك أمك مرة أخرى… وسألقي على مسامعك في طورك الجديد كل ما سبق أن سمعته، وما قلته، وما قرأته، بل كل ما فعلته منذ ولادتك الأولى، كما أنك ستعيد قول ما قلته الآن، ومن ثم، فالطفلان كلاهما متماثل تمامًا".

في مقدمة مجموعة رواياته القصيرة " علمنا ان نتجاوز جنوننا " يكتب الناقد والمترجم الامريكي جون ناثان، ان القراء في اليابان ينظرون الى كنزابورو أوي كما لو كان ديوجين القرن الحادي والعشرين الذي يرفع مصباحه عاليا وسط مراكز تسوق اليابان المصممة وفق عمارة ما بعد الحداثة، بذاكرته التي لا تريد ان تنسى مآسي الماضي المخيفة، وأفكاره الصلبه، وخياله الذي لا يعرف الحدود، ودفاعه المستميت عن الديمقراطية، وثقته المطلقة بنفسه واصراراه على انه يركز في معظم كتاباته على الدفاع " عن كرامة الإنسان".