موسى الشابندر في منفاه

موسى الشابندر في منفاه

سـعـاد عـبـد الجـبـار كـاظـم

خلال تدهور الأوضاع السياسية في البلادفي اواخر مايس 1941 نتيجة لخوض معركة غير متكافئةبين الجيش العراقي والبريطاني، ممّا أدّى إلى تأزم الموقف الذي انعكس سلباً على الوساطة التي بادرت بها الدول العربية وتم رفضها من قبل بريطانيا، بحيث فقدَ الوزراء السيطرة على زمام الأمور ممّا أدّى إلى مغادرتهم العراق وترك مسؤلياتهم بأقرب فرصة تتوافر لهم إلى إيران.

هنا توجهت أصابع الاتهام إلى المفتي وإلى صلاح الدين الصباغ بخوض حرب غير متكافئة، على الرغم من إيمانهم بقضيتهم كونهم أصحاب عقيدة وفكر، وهذا لا يمنع من أنهم لم يفكروا بمصلحة الوطن إطلاقاً، وأن يتجنبوا ويلات الحرب باعتقادهم أن تلك الوساطة التركية خيانة وطنية بسبب تخوفهم من غدر البريطانيين، وكان من الأفضل الموافقة على الوساطة التركية، وأخذ الحيطة والحذر من غدر البريطانيين بدل من أشعال نار الحرب.

غادر موسى الشابندر وناجي السويدي ومحمد علي ومحمود الشيخ العراق في الرابع وعشرون من أيار عام 1941 متوجهين إلى إيران، بعد انجاز جوازات سفرهم الرسمية، وكانوا على اتصال مع المفوضية العراقية هناك.

بعد احتلال إيران من قبل القوات البريطانية في الخامس عشر من آب عام 1941م، طلبت الأخيرة من السلطات الإيرانية تسليمها هؤلاء اللاجئين العراقيين، فسلمتهم الحكومة الإيرانية إلى القوات البريطانية، فطلب ناجي السويدي وموسى الشابندر ورؤوف البحراني ومحمد علي محمود وعبدالقادر الكيلاني الرجوع إلى العراق والحضور إلى المجلس العرفي للمحاكمة وجاهاً، إلاّ أن طلباتهم قد رفضت من قبل الطلبات المختصة هناك، وعمدت السلطات البريطانية في إيران إلى نقلهم إلى الأحواز في السابع من تشرين الأول عام 1941 ليودعوا في السجن هناك.

قد أبرق موسى وزملاؤه الوزراء إلى رئيس الوزراء نوري السعيد والسفير البريطاني كورنواليس يطلبون منه السماح لهم بالعودة إلى بغداد للدفاع عن أنفسهم أمام المحكمة العسكرية ولكنهم لم يستلموا جواباً. هكذا أمضوا في الأحواز ثلاثة أشهر عانوا فيها من المصاعب كثيراً وأخطار البيئة الشديدة حتى تمنوا لو يرجعون إلى بغداد ليحاكموا ولكن لم يتحقق ما طمحوا إليه، بعدها نقلوهم من الأحواز إلى جنوب إفريقيا، واحتجوا على ذلك النقل، لكن لم يجدوا أذناً صاغيةً لهم، حتى وصلوا إلى جوهانسبرغ ومنها إلى روديسيا في الأول من شباط عام 1942، إذ تم نقلهم فيما بعد من هناك بواسطة الحرس البريطانيين إلى المعتقل.

قد استغرب الناس هناك كثيراً عندما علموا بأن هؤلاء المعتقلين هم من المدنيين وليست لهم أي صفة عسكرية وقد عاشوا في المعتقل حياة أفضل من الحياة التي عاشوها في الأحواز، وقد رتب الوزراء بينهم أوضاع معيشتهم وشكلوا اللجان الخاصة بتلك الحالة، وكم كانت الحالة مفرحة لهم عندما جرب موسى الشابندر مهارته في حلق رؤوس المعتقلين، وانتخب المعتقلون كلا من موسى الشابندر وجمال داود الحسيني مراقبين على المعتقل ليؤمنا الاتصال بين الإدارة والمعتقلين، وتمكنت اللجنة تأمين خدماتهم من المأكل والملبس، كما ضمت اللجنة الثقافية للمعتقلين موسى الشابندر وكمال حداد وعبدالرزاق الشبيب، وقد ألقى موسى الشابندر درساً في مبادئ اللغة الألمانية للاجئين ومحاضرة عن معاهدة فرساي عام 1919.

نظراً للعلاقة الطيبة التي ربطت موسى الشابندر ورؤوف البحراني ومحمد علي محمود الشيخ مع السيد فين (Veen) المسؤول عن المعتقلات وقائد المعتقل الميجر برانينهوسPraninhos)) سمح لهم بتأجير دار صغير خارج المعتقل وعاشوا فيه حياة أفضل من المعتقل، فضلاً عن ذلك، كان موسى الشابندر وجمال الحسيني يترجمون الكلام بينهم وبين المعتقلين، وربطتهم علاقات طيبة مع أهالي الحي حتى لقبوا بالفرسان الثلاثة موسى الشابندر ورؤوف البحراني ومحمد علي محمود الشيخ.

قد تعرف الوزراء العراقيون الثلاثة على بعض العائلات البريطانية بوساطة السيد الميجر كبرايتهوين ((Cpratiihion وزوجتهُ وكذلك السيدة ديفسDevis)) والسيد سميث (Smith) والسيد دلانوو (Dalano) والسيد سن (Sin) السويسري ممثل الصليب الأحمر الذين كانوا دائماً يترددون لزيارتهم ليتعرفوا على أحوالهم العامة، ويبدو مما سبق، أن الوزراء العراقيين الثلاثة موسى الشابندر ورؤوف البحراني ومحمد علي محمود الشيخ عكسوا ما يتمتعون به من خلق رفيع ومستوى عالي لمكانتهم الثقافية لدى أهالي الحي بالرغم من الظروف القاسية التي عانوها الوزراء الثلاثة في المعتقل، وقد أرسل موسى الشابندر برقية إلى السيد إيدن وزير الخارجية البريطانية محتجاً على تلك المعاملة، مذكراً إياه بالمعاهدات الدولية بشأن معاملة الأسرى وأيام جنيف وعصبة الأمم، وأضاف قائلاً: " ولا أعلم إذا أرسلت هذه البرقية أم لا ".

سجل موسى الشابندر بمذكراته أهم الفواجع التي ألمّت بالوزراء العراقيين في جنوب أفريقيا، ومنها وفاة ناجي السويدي. ويوصف موسى الشابندر الفاجعة " فإنها هزتنا هزاً ثم رمتنا في أحضان حزن عميق ويأس كبير على أننا بوفاتهِ فقدنا أخاً كبيراً مشجعاً، مؤنساً، فكنا نلتجئ إليه عند الصعوبات والأزمات، وكان رحمه الله مستعداً لتسوية الأمور وتلطيف القلوب، وكان صابراً شجاعاً متحملاً وإن كان لكبر سنه وارتفاع مركزه وسجل خدماتهِ لبلاده أحق من غيره بأن يتذمر ويشتكي مما حلَّ به وبنا... ولكن كان يستبعد الأفكار المؤلمة وتحمّل ما حلّ بنا القضاء والقدر، وينهي الأمور بقصص مضحكة تناسب الوضع".

بعد عودة موسى الشابندر وزملائهِ إلى العراق في الثاني من نيسان عام 1941 من جنوب إفريقيا، تم إيداعهم في سجن أبي غريب تحت حراسة مشددة ومنعوا من الاتصال بعوائلهم.

بعد أن بدأ المجلس العرفي جلسات لمحاكمة موسى الشابندر وجاهياً يوم الثالث عشر من ايار عام 1944 كانت التهم الموجهة إلى موسى الشابندر هي كالآتي:

أولاً: إنه نازي بسبب وجوده في برلين ومعرفته اللغة الألمانية.

ثانياً: صديق رشيد عالي الكيلاني واشتراكه معه في وزارته الثالثة.

ثالثاً: توحيد الصفوف مع قوات رشيد عالي الكيلاني وتهييج الرأي العام ضد وزارة طه الهاشمي وترويج الدعايات المضرة.

رابعاً: اشتراكه في وزارة رشيد عالي الكيلاني.

خامساً: مفاوضته مع ألمانيا وموافقته على دخول الدكتور غروبًا إلى العراق.

سادساً: كان من جملة العاملين على نقض المعاهدة مع بريطانيا.

سابعاً: شدد الخناق على السفير البريطاني في العراق.

ثامناً: ساعد على العصيان المسلح.

تاسعاً: مشاركتهُ في بعض جلسات مجلس الدفاع الأعلى.

أصدر المجلس العرفي في اليوم السادس عشر من آب عام 1944 الحكم على موسى الشابندر وزميله علي محمود بالحبس خمس سنوات، وعلى رؤوف البحراني بالحبس لمدة سنتين، وعلى الشريف شرف لمدة ثلاث سنوات، وبعد اتصالات عدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية قررت في الثالث والعشرين من نيسان عام 1945، بعد أربع سنوات من الهرب والاعتقال والنفي والسجن والمحاكمات والمستشفيات نقل موسى الشابندر إلى بيته للاستشفاء تحت مراقبة الشرطة، وتحويل قضيته إلى الوصي عبدالإله والسفير البريطاني كورنواليس، وصدرت الإرادة الملكية في التاسع من تموز عام 1947 بالعفو عن موسى وعلى محمود الشيخ علي عما تبقى من محكوميتهما، التي تقارب السنة ونصف، وبفضل وساطة هؤلاء جميعاً كلاً من الدكتور سندرس باشا ونوري السعيد وصالح جبر رئيس الوزراء تم الإفراج عن موسى الشابندر.

عن رسالة: موسى الشابندر ودوره الثقافي والسياسي في العراق