هل كان النظام السياسي الملكي خاضعاً لنفوذ عوائل متنفذة؟

هل كان النظام السياسي الملكي خاضعاً لنفوذ عوائل متنفذة؟

د. حميد حسون العكيلي

من أجل الإجابة على سؤال مفاده: هل كان النظام السياسي الملكي خاضعاً لنفوذ عوائل متنفذة؟ فلابد أن نشير إلى, أن العهد الملكي في العراق قد شهد تشكيل (59) وزارة، تناوب على رئاستها (23) شخصاً فقط، اختلفت من حيث عدد أعضائها، إلا ان دستور عام 1925،

قد أكد على ان الحد الأدنى لأعضاء الوزارة هو خمسة أشخاص, بضمنهم رئيس الوزارة. والملاحظ، في عقدي العشرينيات والثلاثينيات، ان حجم الوزارات كان ما بين ستة إلى عشرة أعضاء، وقد تزايدت إلى حدٍ ما في عقدي الأربعينيات والخمسينيات لتصل من سبعة إلى سبعة عشر عضواً، نتيجة استحداث وزارات جديدة كالزراعة والأعمار لمواجهة المتطلبات التي شهدتها البلاد، علاوة على ذلك، تولى رئيس الوزراء مهمة تعيين وزراء بلا وزارات(.

فضلاً عن ذلك، فإن السمة الرئيسة للوزارات العراقية هي أن عمرها كان قصيراً، فسقوط (59) وزارة، يظهر أن معدل عمر الوزارة قد تناقض من تسعة أشهر خلال عقد العشرينيات، إلى خمسة أشهر في عقد الخمسينيات، أي أن المعدل الإجمالي لعمر الوزارة في العهد الملكي، كان أقل من ثمانية اشهر، وفي الوقت الذي كان فيه معدل تغيير الوزارة عالي، فإن الدخول للمواقع الوزارية ظل محدوداً بحلقة صغيرة من النخب السياسية. إذ بلغت مجموع المناصب الوزارية خلال المدة (1920– 1958),(780) منصباً، شغلها (64) شخصاً من ذوي الأصول العسكرية، و(102) شخصاً من ذوي الأصول المدنية. بتعبير آخر، كانت نسبة ذوي الأصول العسكرية (38.6%) من المجموع الكلي. في حين, كانت نسبة ذوي الأصول المدنية (61.4%) من المجموع الكلي، وطبقاً لذلك نجد أن (77) شخصاً من النخبة السياسية تولوا مناصب رئيسة ومناصب ثانوية معاً، أي ما نسبته (46.4%) كان من بينهم (47) شخص من ذوي الأصول العسكرية و(30) شخص من ذوي الأصول المدنية، أما الذين تسنموا مناصب وزارية ثانوية فقط، كان عددهم (89) شخصاً، (17) منهم من اصول عسكرية و(72) من اصول مدينة، الأمر الذي يؤكد ومن دون شك، أن نظام الحكم الملكي في العراق كان خاضعاً لنفوذ عوائل متنفذة، إلى درجة يمكن وصفه بأنه حكم العوائل المعروفة، وهذه العوائل هي التي كانت تمثل النخب السياسية، والتي غالباً ما تكون مرتبطة بعضها ببعض، بحيث تم شغل ما يقارب (337) منصباً وزارياً من مجموع (625) منصباً، أي ما نسبته (62%) من قبل أشخاص تربطهم صلة القرابة أو المصاهرة، وحتى نكون دقيقين أكثر نركن إلى تقييم الكاتب الألماني جورج هارس George.Harris))، الذي قال مانصه:

"يقع على قمة الهيكل المعاصر للسلطة السياسية والاجتماعية للبلاد، افراد من عشرين أو ثلاثين عائلة حكمت العراق فعلياً, وتحالفوا مع بعضهم البعض من خلال المصاهرة والمصالح المشتركة، وان عددهم المحدود يجعل من الممكن لهم ان يعملوا بوحدة هدف اكبر مما هو موجود في غالبية النخب الأخرى في الشرق الأوسط».

بمعنى آخر، ان التعاضد السياسي القوي ما بين النخب السياسية، كان بمثابة ردة فعل للمعارضة المتمثلة بالقوى التقليدية القديمة التي كانت تستند في قوتها على التأييد البريطاني، والالتفاف حول العرش وتقويته، بغية توطيد مركزية السلطة، والتي هي تقوية لنفوذهم من جانب، وإضعاف مواقع القوى التقليدية من والحد من تأثيرها من جانب آخر، لذلك عمدت النخبة السياسية المتمثلة بالعوائل المعروفة الى تعزيز هذا التعاضد، لاسيما وأنهم كانوا متآلفين فيما بينهم بحكم عمق التجربة التي عاشوها في العمل العسكري, سواء كان في الجيش العثماني، أم الجيش العربي في سوريا، لذلك حققوا من خلال المصاهرات العائلية، أبعاداً سياسية كبيرة، مثلت في الوقت نفسه قوة نوعية للحكم، وهكذا أمست عوائل معظم الضباط متداخلة بالزيجات تارة فيما بينها، وتارة بين القوى التقليدية الأخرى.

من هذا المنطلق, تم اختيار عبد الرحمن النقيب، وهو الذي لا يملك أي مؤهل علمي حديث، رئيساً للحكومة المؤقتة، وعلى مايبدو, ان هذا الاختيار قد جاء وفق معايير خاصة, إذ لم تكن الكفاءة السياسية من جاءت به إلى السلطة، ولا قربه من البريطانيين، فالسياسة ابعد ميدان عن دائرة اهتماماته، وهو الشيخ الطاعن بالسن، ويكفي القول، إن بعد تسنمه للمنصب،ارادت إحدى الصحفيات الإنكليزيات أن تجري معه لقاءً صحفياً، فنصحهاً بأن تتحدث بكل شيء عدا السياسة. بمعنى آخر، ان اختياره قد جاء لما توافرت فيه من زعامة لطائفته وخلفية لأسرته، لاسيما وانه من سلالة عبد القادر الكيلاني ونقيب أشراف بغداد، ويومذاك كان لنقابة الأشراف شأن كبير في الحياة الاجتماعية العراقية، وتلك هي النقطة التي شخصها الإنكليز. فضلاً عن, ان افتقاره للخبرة السياسية قد فسح المجال امام برسي كوكس لممارسة السلطة الفعلية بدلاً عنه.

وفي الواقع، إن اختيار النقيب رئيساً لأول سلطة تنفيذية في العراق، قد أثار الاستغراب والدهشة معاً، إذ كيف يمكن تبرير قبول شيخ الانهزاميين عبد الرحمن النقيب المنصب، وهو إبن الثامنة والسبعين من العمر ومصاب بداء المفاصل، وفوق كل ذلك كان زاهداً في الدنيا ومناصبها، وقد اعتاد على وصف نفسه بالدرويش. فضلاً عن, كونه يعدُ استلام المناصب في ظل الحكم البريطاني، مما يحط من مكانته الدينية في نظر أتباعه المنتشرين في العالم. لنقرأ معاً التقرير الذي كتبته المس بيل عن عبد الرحمن النقيب:

«زرت عبد الرحمن النقيب في منزله في 6 شباط 1919، وبعد حديث طويل معه وجهت إليه هذا السؤال, إذا اقتضت الضرورة لأسباب سياسية لا يمكن التكهن بها مقدماً، ان يُنصب على رأس الدولة العراقية أمير من الأمراء، فهل يسعكم قبول هذه المسؤولية بمعونتنا وتعضيدنا، لكي نتجنب انتخاب أحد الأمراء من الحجاز؟ وكان جوابه مصحوب بتأكيد شديد: كيف يمكنك إعطاء هذا السؤال عليّ، أنا درويش فلا تعصمني عادتي، انا صيرورتي رئيساً سياسياً للدولة هي ضد اشد مبادئ عقيدتي تأصلاً، ففي أيام جدي عبد القادر،اعتاد الخلفاء العباسيون استشارته، كما تطلبين أنت وزملاؤك الآن، لكنه لم يكن يوافق على الاشتراك في الشؤون العامة، وسوف لا أوافق أنا ولا أي أحد من احفادي على أن نفعل ذلك، هذا جوابي من الوجهة الدينية، لكني سأعطيك جواباً يستند على أسباب شخصية، فإني متقدم بالسن، وأرغب في أن أقضي الخمس أو الست سنوات التي بقيت من حياتي في الدرس والتأمل، حيث أنهما مشغولياتي المستديمة، وبعد سكوت قليل قال رافعاً صوته، سوف لا اتراجع عما قلته, حتى إذا كان في ذلك, إنقاذ العراق من الدمار التام".

عن رسالة (المصاهرات الإجتماعية وصلات القربى وأثرها السياسي في العراق الملكي 1921-1958).