عدنان البراك شهيد الفكر والصحافة

عدنان البراك شهيد الفكر والصحافة

سهيلة البراك

لم استطع ان أنأى بنفسي عنه، كان فكري يرتد نحوه، على نحو موصول، كما ترتد ابرة البوصلة الى القطب، فهل هذا هو الحب؟ أم الانبهار؟ أم الاعجاب أم التبجيل معا؟ فكل كلمة اكتبها عن عدنان تحرك في اعماقي الألم الدفين وتتركني أسيرة لتلك الفترة السوداء الأشهر الاولى لانقلاب الثامن من شباط 1963 المشؤوم والتي قضيتها في سجن النساء.

فمنذ اليوم الاول لخروجي من السجن بدأت على الفور أبحث عن عدنان من سجن الى سجن وصولا الى ابعد المعتقلات الواقعة على الحدود العراقية والتي كانت تصنف معتقلات للعسكريين. فكل معتقل يرسلني الى معتقل آخر، فكان جلاوزة حزب البعث يتلذذون بخداعنا ولا يبالون عندما يقولون.."ربما هو في معتقل ربما هو في معتقل (ايجثري) فقد نقلوا قسماً من السجناء الى هناك.. وبعد ذلك وبكل استهتار يقولون اذهبي الى الطب العدلي حيث توجد هناك الكثير من الجثث المجهولة.. هكذا وبكل خسة وقباحة.. فكنت ابدأ بالبحث يومياً ومنذ الصباح الباكر في ذلك الصيف اللاهب وتحت اشعة الشمس الحارقة، اذ لم يخبرني أحد في تلك الفترة بانه قد انتهى وبهذه النهاية الوحشية"دفن وهو حي"إلا عن طريق اذاعة"صوت الشعب العراقي"من موسكو وبعد مرور اشهر على ذلك.

وعندما كنت اطلب اللقاء ببعض الرفاق والاصدقاء الذين كانوا على صلة وعلاقة بعدنان وبالرغم من صعوبة تحقيق ذلك، كان من المستحيل ان أحصل منهم على أية معلومة تخص عدنان واستشهاده، إلا بعد مرور سنوات عديدة!

وردا على رسالتي التي طلبت فيها من الرفيق سعدون الشهيد وضاح عبدالامير عام 2003 ان يخبرني باي شيء يعرفه عن عدنان لم يستطع ان يكتب لي إلا جملا قصيرة، اذ كان يتحاشى ان يذكر أمامي وبالتفصيل ما يعرفه او سمعه عن عدنان.. وهذا ما ذكره في رسالته:

«اعتقل عدنان بتاريخ 12 شباط 1963 في الكرادة الشرقية، في مسكن مسؤول الشبيبة الديمقراطية (الشهيد حسين هورماني) من قبل الحرس القومي في الكرادة الشرقية / الزوية. والحرس القومي كان (حسان البزركان) وعلى ما أعتقد هو (ابن خالة عدنان) بحسبما قيل لي. وعلمت بعدها بان ابراهيم وسعدون غيدان (وهو زوج بنت خالة عدنان) وحازم ناجي هم الذين قاموا بدفن عدنان وهو حي. في ليلة 8 آذار 1963 في اراضي خميس الضاري- الحصوة، بعد ان مارسوا أنواع التعذيب معه: الكي الكهربائي، قلع الاظافر، تشريح الأذن.. الخ. اخرجوه من قصر النهاية ملفوفاً ببطانيته ونقل معه ابراهيم الحكاك ودفنوهما وهما احياء.

ولم يُسلم الرفيق سعدون الرسالة الي مباشرة! إنما كتب على الظرف: تسلم الى (ارملة الشهيد عدنان) الرفيقة (سهيلة حسن) وحتى الان لم يستطع اي من الرفاق ان يحدثني مباشرة عن أي شيء له علاقة بطريقة استشهاد عدنان!

- اما ما جاء في رسالة الرفيق (باسم مشتاق) فاذكرها ايضا بالنص كما استلمتها:

«ترتجف الاصابع ويهتز القلم ويسقط القلب في دوامة من الحزن والخوف والألم.. كما لا يشبه اي كابوس.. نعم هذا هو كلما أعدت وفي الذاكرة شيئا من تلك الايام والليالي التي عشناها في المسلخ الموسوم"قصر النهاية».

أفتتح مسلخ قصر النهاية في 19-20/2/1963 وزج به المئات من المواطنين وبعد ايام معدودات، وكنت انا موقوفاً هناك، جيء بمجموعة من الشباب وكان بينهم الشهيد (عدنان البراك) الذي تعرض أمامنا لشتى أنواع التعذيب من قبل افراد الحرس القومي وبمساهمة واشراف اعلى القياديين في حزب البعث حينذاك.

وفي ليلة سوداء رهيبة نادوا على مجموعة من الموقوفين كان من بينهم الشهيد (عدنان البراك) ومعه حسبما تسعفني الذاكرة الشهيد (ابراهيم الحكاك) والشهداء (حسين الهورماني) و(فيصل الحجاج) و(خزعل السعدي) و(عبدالخالق البياتي) وآخرون.. واوقفوهم أمامنا وعصبوا أعينهم وقيدوا ايديهم ثم دفعوهم دفعاً الى خارج القصر.. وسمعنا بعد ذلك بانهم دفنوا أحياء).

واليوم يحتم الواجب على كل عراقي غيور ان يعمل على فضح تلك الجرائم البشعة، واعادة الاعتبار الى الشهداء الأبرار، وإنصاف عوائلهم.. بكل ما يقتضيه ذلك من روح وطنية وانسانية.

التوقيع باسم طالب مشتاق

وفي رسالة الرفيق والاخ العزيز (فخري كريم) التي تلسمتها منه وانا خارج العراق وبخط يده الجميل اضافة الى اسلوبه المتماسك الرائع في سرد الاحداث آنذاك وتسلسلها بالرغم من حداثة ممارساته الصحفية، فكما سمعت منه مباشرة كان شاباً في بداية عمله الصحفي عندما كان يذهب الى هيئة التحرير"اتحاد الشعب"فكما ذكر في رسالته.. لم تكن له صلة مباشرة بـ(عدنان) انما كان يسمع عنه من بقية الرفاق.. وبعدها بدأت تنكشف له شخصيته التي وصفها في رسالته..

«لم يترك الشهيد (عدنان) انتاجه الغزير في عالم الصحافة اليومية التي كانت تصدر في تلك الفترة، انما ترك إبناً في عامه الاول وزوجة شابة حرصت على ان تجعله يقتدي بسيرة والده الشهيد، لكي يكون إبناً لأب فدى حياته من اجل شعب العراق، وكادحي العراق"هذا جزء صغير من رسالة شقيق عدنان كتب بعضها لي بعد وصولي الى موسكو وهو في براغ.

ترك لزوجته كماً هائلاً من الذكريات التي لا يمكن سردها في صفحات قلائل فيقول: لم يكن (عدنان) رفيق دربي ووالد ابني الوحيد فحسب انما كان استاذي ومعلمي وشريكي بكل شيء، حتى بدفاتر تلميذاتي الصغيرات.. ومفردات دروسي في الجامعة.

فمساء كل يوم..الثامن من آذار من كل عام اليوم الذي تحتفل به جميع نساء العالم- هو نفس اليوم الذي أزهقت فيه تلك الروح النقية الطاهرة التي تتدفق حيوية وعطاء زاخراً بكل معاني الانسانية.