60 عاما على إنقلاب 8 شباط الأسود .. رحلتي في معتقلات إنقلابيي شباط

60 عاما على إنقلاب 8 شباط الأسود .. رحلتي في معتقلات إنقلابيي شباط

نصير الجادرجي

بناءاً على ماسمعته من السائق (حسين) والبيانات التي كنت أستمع اليها من الاذاعة نويت الذهاب الى منزل شقيقتي (أمينة) في الكرادة، لكن مع حلول المساء تم قطع أغلب الطرق، فقررت الذهاب بمفردي الى منطقة الصليخ حيث منزل ابنة خالتي السيدة (أسماء الكيلاني) زوجة السيد (منذر منير عباس).

ذهبت الى هناك بصحبة (حسين) السائق، مضطراً لأني كنت معروفاً بالحي الذي يسكنونه.

كان منزل السيد (منذر منير عباس) مكتظاً بالزائرين الذين كانوا يتابعون أخبار الانقلاب فيه عبر المذياع والتلفزيون ويتداولونها، الأمر الذي أدى الى معرفة أمر وجودي في بيتهم من قبل الكثيرين.

بقيت في منزلهم قرابة يومين، وكانت الاحداث تتسارع بشكل مروع أشدها وطأة علينا، كان مشهد عرض جثة الزعيم (عبد الكريم قاسم) على شاشة التلفزيون وهي مغطاة بالدماء وأحد الجنود يبصق بوجهه بوضع يدعو الى الشجب والاستهجان من الكثير ممن شاهدوه.

خصصت لي عائلة السيد (منذر منير عباس) إحدى غرف المنزل في الطابق الثاني كي أقيم فيها، وفي ظهيرة يوم الحادي عشر من شباط/فبراير فوجئت بدخول السيدة (ليلى سامي شوكت) علي بشكل مفاجىء، وهي التي كانت تربطنا بأسرتها صلة الصداقة و(النسب) وكانت دائمة الحضور في منزل السيد منذر لصلة القرابة والجيرة بينهم.

كان الارتباك طاغياً على ملامحها وقد بدت يداها ترتجفان، وبنبرات خائفة قالت لي:

اسمع يانصير.. توجد الآن في باحة المنزل حوالي خمس سيارات مُحملة بعناصر (الحرس القومي) يحملون أسلحتهم وهم الان يطوقون البيت من جميع جوانبه.

ثم استرسلت في كلامها قائلة:

أمروا كل الموجودين في البيت بالخروج منه وأبلغونا بأنهم سيقتلون كل من يتحرك، حيث لديهم معلومات تؤكد وجود (نصير الچادرچي) فيه.

ثم قالت: أتوسل إليك أن تستسلم.. لأنني رجوتهم لكي يسمحوا لي بإبلاغك بتسليم نفسك بدلا من القاء القبض عليك بأنفسهم... ثم كررت رجاءها بالنزول معها لتسليم نفسي إليهم.

رأيت ألا فائدة من الهروب أو المقاومة وفكرت بالاسرة التي استضافتني فيما لو تعرضت للأذى بسببي.. وبخطوات هادئة وقيافة كاملة نزلت السلالم معها، لأرى عشرات المسلحين موجهين رشاشاتهم نحوي.

كان الخوف قد تجرد مني أمام هذا المشهد المروّع. لم يكن ذلك ضرباً من ضروب الشجاعة بل يأساً من الحياة لتوقعي بإطلاق الرصاص علي وموتي في الحال أو ضياعي في معتقلاتهم ثم النهاية.

-قالوا لي: اصعد معنا في السيارة.. ودون أن أقول أي شيء فتحت الباب وصعدت في السيارة التي طلبوا مني أن أستقلها، ولم تكن قد مضت ثانية حتى فتحت بابها ووضعت قدمي على الأرض من أجل إعطاء (مسبحتي) الى ابنة خالتي (صاحبة المنزل) كي توصلها إلى زوجتي في إشارة مني لهم الى أنني ذاهب دون رجعة، (لتبقى تلك المسبحة ذكرى لعائلتي، وقد احتفظت بها حتى يومنا هذا وتذكرني دائماً بذلك اليوم الأسود المشؤوم الذي مر به العراق).

النادي الأولمبي

وصل بي موكب سيارات (الحرس القومي) الى مقر النادي الأولمبي المطل على ساحة عنترة في منطقة (الأعظمية)، حيث رأيته مكتظاً بعشرات الرجال المحتجزين فيه وكنت أعرف بعضاً منهم.. كان الوضع فيه مأساوياً حيث رأيت بأم عيني في اللحظات الاولى لايداعي فيه عمليات الاعتداء بالضرب على المحتجزين.. وفي المساء كنا نسمع اصوات الرصاص التي تطلق لتنفيذ احكام الاعدام ببعض المعتقلين، دون أن نراهم.

في اليوم الثالث من اعتقالي تعرضت للاعتداء بالضرب مع مجموعة من المعتقلين في سطح النادي، وكانت تلك المرة الأولى التي يتم الاعتداء فيها علي بالضرب إسوة ببقية المعتقلين.. لم يكن هناك تحقيق يذكر بل كانت الفوضى تعم المكان، وسوق المحتجزين فيه للضرب او للقتل يتم وفق الأهواء.

كنت قد أودعت في قاعة كبيرة جلست فيها مع العشرات من المعتقلين.. مضت علي أيام وقد أدركت الوضع واستوعبته لكن دون أن أتعرض لأي تحقيق أو مُساءلة. كان من ضمن مشاهداتي هناك زيارة (صديقي) أحد عناصر الانقلابيين (فيصل حبيب الخيزران) يصحبه السيد (زكي الخشالي) أيضاً.

تقدم نحوي الخيزران وسلم علي وذهب، أما زكي الخشالي الذي كانت تربطني به صداقة قديمة جدا توطدت أواصرها أكثر أيام وجودي وإياه في كلية واحدة فحال مشاهدته لي أخبرني بعزمه الذهاب لمنزلنا وجلب حاجاتي منه طالباً مني إخباره بما أحتاج من هناك.

شكرته وأخبرته بما أحتاج، ثم سرعان ما عاد بعد أن عرف بأنني قد تعرضت للضرب في المعتقل وأخبرني بأنه احتج على ذلك الأمر وهو صادق فيما يقول.

أيقنت من خلال سلوكه معي بهذا الوضع الحرج بأن الرجل يحمل بداخله لي جميلاً (ليس بالقديم) حين كنت أزوره بصورة مستمرة أيام وجوده معتقلاً بمعسكر الخيالة في منطقة الكسرة، جراء اتهامه بتأييد حركة الشواف، حيث كان الضابط المسؤول عن ذلك المعسكر (قاسم عبد) صديقي، وكان من ضباط الحرس الملكي السابق.

وبعد يومين وحينما كنت جالساً في إحدى زوايا المعتقل (النادي) رأيت السيد (هاشم قدوري) «حيث كانت لي علاقة جيدة معه» وكان معروفاً حينها بقسوته الشديدة على المعتقلين وعدم إتزان تصرفاته،.. كصديق قديم تربطني به معرفة سابقة وقفت لأسلم عليه وصافحته، كان حينها يرتدي ملابس الحرس القومي، لكنه فاجأني قائلاً أثناء مصافحتي له: لماذا لم يأتوا بهديب الحاج حمود معك؟!.

لم أجبه في الحال، لكني نظرت إليه بإستهزاء ثم قلت له: اذهب أنت واجلبه معك. ثم استدرت وعدت الى مكاني جالسا في الزاوية.. وبقي للحظات واقفاً ينظر الي بخجل وذهب..

بعد مضي عدة أعوام على ذلك الموقف صادف أن زرت مدينة الحلة لمراجعة بلديتها لمسألة معينة واذا بالمحافظ (هاشم قدوري) يلمحني ثم نادى علي بصوت عالٍ (أخي العزيز نصير) وأخذني بالأحضان، وقال: سمعت بوجودك هنا وبعثت من يفتش عنك، تفضل معي الى الغداء ولن ادعك تذهب الى بغداد دون أن تأتي معي. لكني رفضت بإصرار عن تلبية الدعوة وذهبت.

بعد ذلك تم نقلي الى مديرية الامن العامة في منطقة (السعدون)، حيث قضيت فيها عدة ساعات محتجزا في غرفة صغيرة طولها حوالي (7 أمتار) وقد اودع بها قرابة الثمانين شخصاً كانوا جميعاً واقفين لصعوبة الجلوس، وفي الليل تم نقلي مع مجموعة الى معسكر (أبو غريب) والذي كان إحدى الثكنات العسكرية حيث كان أطول محطاتي في الاحتجاز، ومكثت فيه أكثر من شهرين.

كان المحتجز يضم العديد من الشخصيات المعروفة، ولم أكن قد تعرضت للتحقيق فيه مطلقاً، فقط قضيت فترة احتجاز (غير معلومة الأسباب)، كان حاكم التحقيق في المعتقل، السيد (شامل الشيخلي) الذي كان حاكماً بالمعنى الحقيقي ذا شخصية محترمة من جانب المحامين، وأرسل خبراً الى اسرتي بوجودي في ذلك المعتقل، وبلّغت باستدعائي مع خالد عيسى طه لاجراء التحقيق.

كان مقر التحقيق عبارة عن (خيمة). وجدناه يجلس وسطها وقد بدا في غاية اللطف. أخبرنا بأنه لن يجري معنا أي تحقيق بل كان استدعاؤنا ذريعة منه للقاء أسرنا.

طلبت منه أن يستغل وجوده في هذه الخيمة لاجراء التحقيق معنا، لكنه اعتذر عن ذلك (فتوقعت بأنه لن يبقى في هذا المكان)، وفي تلك الأثناء دخلت والدتي علي، فكان ذلك لقائي الأول بها منذ قرابة الشهر، وقد دخلت معها أيضاً زوجة السيد (خالد عيسى طه).

بعد ذلك تم إيداعي في (قاعة الأطباء) داخل المعسكر، وكانت صغيرة المساحة ولم تكن محصورة بالاطباء بل أن اسمها كان هكذا مَجازياً وغير رسمي.. وقد وجدت فيها المحامين والاطباء والمدراء العامين.

في معتقل ابو غريب كانت تتم عمليات تعذيب وتجاوزات كثيرة بشكل عشوائي على المعتقلين، لكنها لم تطالني.. فيما كان يصلنا من أسرنا بعض الطعام والملابس الضرورية.

خلال شهري وجودي هناك كان الجوع قد بدا واضحاً على المعتقلين، جراء سوء الغذاء المقدم لنا من المقاول، ما أدى الى حدوث مشاكل في الهضم وحالات اسهال طالت بعض المعتقلين، إذ تم منع إيصال الطعام لنا من أهالينا في فترة معينة.. وقد اكتفيت حينها بتناول بيضة مسلوقة واحدة و(صمونة) كنت أتناولها صباحاً لتكون مؤونتي الغذائية طيلة يوم كامل.

في أحد الأيام أبلغني الحرس بوصول قدر من الـ(كبّة) أوصلته ابنة خالتي السيدة (أسماء الكيلاني) إلي بصعوبة كبيرة.

لكنها للاسف وصلتني (فاسدة) كونهم قد أودعوها عندهم لمدة يومين دون حفظ.. عند إدخالها لي رأيت أنظار المعتقلين تتجه صوب القدر ومافيه رغم انبعاث الرائحة الكريهة منه فسارعت برميه في سلة القمامة، فأستنكروا ماقمت به لكنني أقنعتهم بخطورة تناوله.

من أشد الأيام إحراجاً تلك التي تجود بها الذاكرة عن أيام وجودي في معتقل انقلابيي شباط 1963، تحديداً في معتقلي (أبو غريب والمثقفين) والتي بقيت ذكراها الأليمة راسخة في الوجدان، لألخصها الان بإيجاز عبر نقاط أروي من خلالها للأجيال القادمة قصة انتهاكات خطيرة بحقوق الانسان العراقي وكرامته طالت نخباً عديدة من أبناء شعبنا العراقي وكنت شاهداً عليها.

كان معنا استاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق سابقاً الدكتور (عبد الله اسماعيل البستاني) الذي يمتاز بقامة ممشوقة، وذات يوم سأله السجان السؤال نفسه فطلب منه مرافقته.. كان معه بالقاعة نفسها صديقه المحامي (عبد الرزاق المسعودي) فظن أن السجان قد اخذ صاحبه لاكرامه بنقله إلى مكان افضل (يليق بمكانته)!!!، وببراءة وطيبة قلب نادى على السجان مخبراً إياه بأنه رفيقه، طالبا منه مرافقته لمكانه الجديد.. فأستدار اليه وقال: تفضل معنا أنت أيضاً.

ثم عادا محلوقي الرأس.الامر ذاته تكرر مع المحامي خالد عيسى طه.. وغيره من الشخصيات.

عن: مذكرات نصير الچادرچي، دار المدى.