حقائق من أيام حصار الكوت 1916..الجيش البريطاني المحاصر وأهل الكوت

حقائق من أيام حصار الكوت 1916..الجيش البريطاني المحاصر وأهل الكوت

د, ستار جبار الجابري

بعد ان ثبت ان الجيش البريطاني اصبح محاصرا في الكوت من قبل القوات التركية، أمر الجنرال طونزند بمصادرة جميع المواد الغذائية في الكوت، بيد أن الحاكم العسكري وجد أن ابتياع هذه المواد من السكان أمرا مناسبا، لذلك لجأ إلى هذه الوسيلة(32)، وقد امتنع طونزند حتى ذلك الوقت عن تفتيش دور أبناء الكوت بحثا عن الطعام،

إذ ذكر « إن السكان العرب في الكوت يبلغ عددهم ستة آلاف نسمة، وهم معادون بلا ريب... مما يشكل خطرا حقيقيا... وإنني لا أريد البحث عن الطعام إلى أن أضطر إلى ذلك... وقد علمت بأن هناك طعاما كثيرا في المدينة، ولكن ليس كثيرا جدا كما تبين لنا».

وكان لدى الجنرال طونزند في اليوم الحادي والعشرين من كانون الثاني من الطعام ما يكفي الجنود البريطانيين والهنود أربعة عشر يوما فقط، ولما شعر بأن أمد الحصار سيطول صمم على مصادرة جميع المواد الغذائية الموجودة في الكوت. ففتش جميع المنازل منزلا منزلا، وأعطى مكافأة لكل من ينبئه بمخابئ الحبوب المواد الغذائية، ذلك أن الأغنياء من أبناء الكوت حاولوا إخفاء الطعام الموجود عندهم، فوجد كميات كبيرة من الحبوب.

وعلى الرغم من عمليات المصادرة هذه للطعام، إلا أن البريطانيين كانوا يشكون بأن العراقيين لا زالوا يحتفظون ببعض الطعام، فلاحظوا على أبناء الكوت أن « قلة منهم ظهرت عليه إمارات الهزال من مسبغة وحتى النهاية، وكان الأطفال يتراؤون على حظ من سمنة، ولم يظهر عليهم أنهم يشكون من قلة الطعام».

وبينما كان الجنرال طونزند يعمل على تصنيع جسرين بسرية تامة لكي يعبر بهما إلى الجهة المقابلة بغية مساعدة قوات الجنرال أيلمر التي وصلت لنجدته والالتحاق به، هرب ثلاثة من العراقيين ليلة الرابع والخامس من آذار 1916م، وقطعوا نهر دجلة سباحة، واخبروا العثمانيين بأمر الجسرين، فاحتلت القوات العثمانية صباح اليوم الخامس من آذار خنادق جديدة على الضفة اليمنى قبالة بلدة الكوت، وهو الموقع التي كان الجنرال طونزند ينوي نصب الجسور بها وأفشلوا مساعيه، لذلك كان طونزند يعاني من أن جميع معلومات معسكره مكشوفة أمام العثمانيين، وكانت شكواه المستمرة بأن جميع المعلومات الخاصة بالمعسكر البريطاني معروفة تماما لعدوه بسبب أبناء الكوت.

أرسل الجنرال طونزند في اليوم العاشر من آذار 1916م تقريرا عن دفاع الكوت، تحدث فيه لأول مرة عن الانسحاب من الكوت، والكيفية التي يتم بها، وهل يكون عن طريق الاستسلام لقوات خليل باشا، أم باختراق قواته للتحصينات العثمانية بالقوة. واستبعد الاحتمال الثاني لأسباب عديدة، منها قوله إننا « كوننا في العراق، وهي بلاد عربية، وكل رجل من سكانها قائم علينا، وكل بندقية فيها مصوبة نحونا، فلو تمكنت من الخروج بثلاثمائة رجل لخدمني الحظ جل خدمة».

ولما اشتدت قسوة الحصار، أمر الجنرال طونزند الحاكم العسكري بأن يطلب من السكان أن يبيعوا له (1430) مندا من الشعير، إذ كان يعتقد بأن السكان قد أخفوا الشعير عنه، وتوعدهم بقوله « إذا لم يقدموا الشعير المطلوب منهم فتشت البيوت، وعاقبت الشخص الذي نعثر على الحبوب عنده عقوبة صارمة جدا».

وذكر طونزند « لولا العثور على الحبوب في البلدة لسلمنا للعدو في شهر شباط، لأنني لما دخلت الكوت كانت أرزاقنا تكفي القطعات البريطانية شهرا والجنود البريطانية 55 يوما».

وكان أبناء الكوت لا يأخذون النقود الورقية، حتى أنهم كانوا يصرفون روبية لقاء ورقة العشر روبيات، لأنهم كانوا يعتقدون بانتصار العثمانيين، فكانوا يضمرون العداء للبريطانيين، لذلك ذكر طونزند « لا أستطيع جلد 6000 شخص لامتناعهم عن أخذ النقود الورقية، وجل ما استطيع عمله لتأديبهم أن أعدم شخصا منهم في بعض الأحايين ممن يرتكبون جرم التجسس فأجعله عبرة لغيره».

كما اشتكى من عدم استطاعته دفع ثمن ما يشتريه إيصالات يدفعها للبائع، كما كان الحال في جنوب أفريقيا، لذلك طلب من قيادته إرسال الأموال إليه وهو محاصر في الكوت عن طريق الطائرات.

وبالفعل ألقيت عن طريق الطائرات سبعة أكياس مملوءة بالروبيات على حامية الكوت، بيد أنها أثارت الحنق الشديد لدى طونزند الذي كان يصرخ « يجب أن يلقى الطعام قبل كل شيء «، في إشارة منه إلى أن الطعام أهم من الأموال لاسيما في الأيام الأخيرة من الحصار.

تلقى الجنرال طونزند في العاشر من نيسان 1916م برقية من المقر العام للحملة البريطانية تشير إلى أنها لن تستطيع إنقاذه قبل اليوم الخامس عشر من نيسان، وأن عليه أن يسعى في إطالة أمد الحصار، واقترحت عليه إخراج جميع السكان العراقيين من الكوت، ما عدا بضعة أشخاص ممن يمكن الإفادة منهم لتحقيق غاية إطالة أمد الحصار، واستفسر منه المقر العام إلى أي وقت يمكن أن يدوم الحصار في حالة خروج السكان من البلدة، وكيفية إخراجهم. كما اعتقد المقر العام أنه إذا ما فتش البيوت مرة أخرى بيتا بيتا فإنه قد يحصل على بعض المواد الغذائية، فأجاب على هذه البرقية في اليوم التالي بأن مسألة إخراج السكان من الكوت صحيحة من الناحية النظرية، ولكنها مستحيلة من الناحية العملية، فضلا عن ذلك فقد أخبر المقر العام بأن العثمانيين يطلقون النار على كل عراقي يقع نظرهم عليه وهو يحاول الخروج من الكوت، وكان رجال المهيلات عندما يفرون سباحة ليلا تصليهم الربيئات العثمانية نارا حامية من الضفة اليمنى، وقال: «قبل بضع ليال رجع شخص من سكان الكوت الذين نجوا من الترك، فروى أن الترك قبضوا على الجماعة التي كان فيها عند نزولها إلى البر على الضفة اليمنى، فحاكم الترك أفراد تلك الجماعة، وأعدموهم على الفور رميا بالرصاص، أما هو فتمكن وحده من النجاة «.

فضلا عن ذلك فقد أشار إلى أن النساء والأطفال لا يمكنهم عبور الفيضان من الجانب البري بين خنادق البريطانيين والعثمانيين، لأن تلك الخنادق وطرق المواصلات مغمورة بمياه الفيضان، أما عن الخط النهري فقال: «إذا وضعت سكان البلدة في المهيلات التي عندي ويبلغ عددها الثلاثين، بحيث أضع في مهيلة مائة أو مائتي شخص، أطلق الترك النار على هذه المهيلات، فيذبح أولئك العرب ذبحا هائلا، ويردد صدى الفاجعة في قاصي العراق ودانيه، ويقول العرب هذه هي حماية البريطانيين للعرب الذين أصبحوا تحت حكمهم، ويكون لهذه الحادثة تأثير سياسي سيء جدا».

وأخبر طونزند المقر العام إنه استخرج من البلدة أثناء الحصار (900) طن شعير، و(150) طن قمح، و(1600) طن سمن، وقال لولا هذه المواد لسقطت الكوت منذ مدة طويلة.

اتصل الجنرال طونزند بعد فشل جميع المحاولات البريطانية لفك الحصار وانهيار جيشه جوعا بخليل باشا في اليوم الخامس والعشرين من نيسان 1916م، وتم الاتفاق على استسلام البريطانيين دون قيد أو شرط، الأمر الذي تم في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، بعد أن دمر المدافع وجميع الأسلحة والمواد الأخرى والعتاد ومعدات التلغراف اللاسلكي وغيرها والتي كانت بحوزته، فدخل فوج تركي إلى بلدة الكوت وتولى حراستها.

وكانت القوة المستسلمة مؤلفة من 277 ضابط بريطاني، و204 ضابط هندي، و2592 جندي بريطاني، و6988 جندي هندي، و3248 من الأتباع الهنود (غير المحاربين)، وبذلك بلغ المجموع 13309 شخصا، وكان قد قتل أثناء الحصار 1025 شخصا من المحاصرين متأثرين بجراحهم، ومات 721 شخصا نتيجة المرض، وجرح 2500 شخصا، وفقد 72 شخصا، وكان في المستشفى 1450 شخصا من الجرحى.

وبعد أن دخل الأتراك إلى الكوت عذبوا الكثير من أبناء المدينة، وضربوهم ضربا مبرحا، بحجة وقوفهم إلى جانب البريطانيين، كما أعدموا المترجم اليهودي ساسون شنقا، فضلا عن إعدام بعض المواطنين العراقيين المسلمين.

عن بحث: معركة حصار الكوت وأثر المقاومة العراقية 1915-1916م.مجلة كلية التربية في جامعة بابل. 2008.