الحان خالدة حفظها الناس ولا يعرفون أنها لعثمان الموصلي..!

الحان خالدة حفظها الناس ولا يعرفون أنها لعثمان الموصلي..!

مازن العليوي

هناك ألحان خالدة في الذاكرة الموسيقية العربية، ومنها «البنت الشلبية» التي غنتها فيروز، وعلى اللحن ذاته غنى صباح فخري «العزوبية»، وانتقل اللحن إلى العديد من البلدان غير العربية فغنوا بلغاتهم عليه، ليصبح لحناً عالمياً،

ومما روي أنه انتقل إلى الهند وعن الهندية أخذه الرحابنة لتغنيه فيروز. وكلٌّ من فخري وفيروز غنى "عالروزنة»، كما غنى صباح فخري أيضاً وغيره «قدك المياس يا عمري»، و»آه يا حلو يا مسليني»، و»هيمتني».. وغنى فخري وقبله ناظم الغزالي «فوق إلنا خل»، وغنى الغزالي «يا أم العيون السود» التي غناها حديثاً كاظم الساهر وغناها آخرون قبله.

إرث هائل

القاسم المشترك بين الألحان المذكورة سابقاً أنها للمبدع العراقي الملا عثمان الموصلي (1854 – 1923)، الذي ظلمه الإعلام العربي وحفظ الناس ألحانه، ولا يعرف الكثير منهم أنها له، وبعضها من أشعاره مثل "قدك المياس". والموصلي الذي ولد في الموصل فقد والده مبكراً، ثم فقد بصره في السابعة من عمره بسبب مرض الجدري ليس موسيقياً فقط، بل من روّاد علماء الموسيقى، وهو شاعر وخطيب مفوّه كان له دور في ثورة العراق عام 1920، كما أنه من أعلام المقرئين.. وتنقل بين العراق وتركيا وبلاد الشام ومصر وليبيا، وأدى فريضة الحج في الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، تاركاً بصمة في كل مكان استقر به. ومن المفارقات أن الإعلام ذكر تدمير تنظيم داعش لتمثال عثمان الموصلي في الموصل عام 2014 كخبر موجز من دون تفاصيل عن موسيقي عبقري ترك إرثاً هائلاً تتناقله الأجيال.. وأعيد تنفيذ التمثال عام 2019 في موقعه السابق.

ضاف إلى الأعمال المذكورة أعمال موسيقية أخرى مازالت حاضرة لدى الجمهور، على الرغم من مرور قرن على رحيل صاحبها، سواء في الداخل العراقي أو في الدول العربية.. ومنها "ربيتك اصغيرون حسن"، و"يا خشوف العلى المجرية"، و"يا من لعبت به شمول".. و"يا ابن الحمولة" والكثير غيرها.. كما قدم سيد درويش لحن "زوروني كل سنة مرة" المنسوب أصلاً للموصلي في توشيحه "زر قبر النبي مرة"، والتوشيح هو "التنزيلة» في الثقافة الموسيقية الموصلية.. ومما روي أيضاً أن الموصلي هو صاحب لحن أغنية «طلعت يا ما احلى نورها" المنسوب لسيد درويش، وأصل اللحن توشيح ديني عنوانه "بهوى المختار المهدي" لعثمان الموصلي.. والتداخل الموسيقي بين سيد درويش وأستاذه الملا عثمان الموصلي يحتاج دراسة مستقلة وافية.

ونود أن نشير هنا إلى أن عدداً قليل ممن غنوا ألحان الموصلي نسبوها إليه، مثل المطرب الراحل ناظم الغزالي وآخرون في العراق ممن عاصروه أو سبقوه، ولم تذكر المصادر أن أحداً خارج العراق فعل ذلك.

المعلم الثالث

بلغ الأمر بالبعض أن لقبوا عثمان الموصلي بالمعلم الثالث لما ترك من أثر وتغيير وتطوير في كل مكان حط فيه رحاله عبر لقاءاته ودروسه، مثل بغداد وإسطنبول ودمشق وحلب وبيروت والقاهرة، وكان شاعراً باللغة العربية يعرف أسرار علم العروض وبحور الشعر، ويتقن أيضاً اللغات الكردية والتركية والفارسية، وتعلم منه واستفاد الكثير من كبار الموسيقيين العرب وغير العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومنهم: الموسيقار التركي كاظم أوز، وعبده الحامولى ومحمد كامل الخلعي وعلي محمود وسيد درويش في مصر، وقد التقى الأخير عام 1909 وهو في بداياته الموصلي للمرة الأولى في بلاد الشام، وبعد ثلاث سنوات التقيا مجدداً، وعلى مدى عامين تعلم درويش من أستاذه فنون الموسيقى والمقامات والموشحات، وعاد بعدها إلى مصر ليصبح مجدداً فيها.

وتأثر بالموصلي أيضاً عمر البطش وأبو خليل القباني في سورية. ومما عرف عنه أنه نقل إلى مصر، التي سكن فيها خمس سنوات، مقامات جديدة على موسيقاها مثل الحجاز كار والنهاوند. وكان جلّ وقته فيها بين التلاوة في الأزهر وحلقات الذكر الصوفية وتدريس الألحان ونشر الكتب ومجالسة العلماء والشخصيات المهمة.

ويضاف إلى ما سبق أن الموصلي كان متمكناً من المقامات وعازفاً بارعاً على آلتي العود والقانون، وبرز في الموشحات والألحان الدينية، وبعض ما أخذه عنه موسيقيون كبار هو في الأصل ألحان دينية، لكنهم حولوها إلى أغان ذات صبغة ترتبط بالحب والهوى.

إلى ذلك، فقد جرّب الموصلي العمل الصحفي عبر إصدار مجلة "المعارف في مصر عام 1897 وكان هو رئيس تحريرها ومحررها الأبرز.

المخزون الديني

يعد المؤرخ د. عادل البكري أهم من كتب عن سيرة الشيخ عثمان الموصلي عبر كتابين هما: (عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف) و(عثمان الموصلي قصة حياته وعبقريته)، واعتمدنا على الأول الصادر عام 1966 في بعض ما ورد في هذه الدراسة العاجلة.

من أهم محطات الموصلي زيارته مدينة إسطنبول، وإعجاب الناس بقدراته، مما جعل أخباره تصل إلى السلطان عبدالحميد الثاني، فقربه إليه وأرسله لاحقاً موفداً سياسياً إلى بعض المناطق ومنها بلاد الشام والحجاز عام 1906، وليبيا حيث أكرمه السنوسي هناك، كما كرمت الدولة العثمانية عثمان الموصلي مرات عدة لأنه قدم الكثير من الألحان الدينية المميزة، متأثراً في ذلك بالمخزون الديني الكامن في أعماقه، فقد تعلم في بداياته في مدارس تحفيظ القرآن وتجويده بالموصل، وبرز في التلاوة بصوته المميز. ثم بعد انتقاله إلى بغداد درس المقامات العراقية، واندرج في الطرق الصوفية وما تحتويه من احتفاليات وأغنيات دينية، وفي إسطنبول كان الموصلي أشهر قرائها حين حط رحاله فيها. كذلك فإن لدى الموصلي العديد من الكتب، منها: "المراثي الموصلية في العلماء المصرية"، وديوان "سعادة الدارين" (مجموعة قصائد مع مقدمات نثرية)، وديوان "الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان».

صباح يوم 30 (يناير) كانون الثاني عام 1923، توفي الشيخ عثمان الموصلي تاركاً إرثاً موسيقياً هائلاً، وأثراً كبيراً في العديد من البلدان، واستمرت ألحانه حاضرة في الوجدان العربي بعد ما يقارب قرنٍ على رحيله، لكن اسمه غاب، بسبب ندرة التوثيق وغياب التقنيات في عصره، فالتسجيلات تكاد تكون منعدمة إلا ما ندر، ولم يبقَ من الأسطوانات "البدائية" في حالة جيدة سوى أربعة، كما أن من أخذوا عنه ألحانه لم يشيروا إليه من قريب أو بعيد.

حكاية "الروزنة"

تحتفي العديد من المدن العربية بأغنية "الروزنة» ولكل منها رواية خاصة بها عنها، ولا يظهر في أي مرجع اسم غير الملا عثمان الموصلي ملحناً لها.

يغنونها في العراق وسورية ولبنان وفلسطين.. وأشهر من غناها فيروز وصباح فخري، وقبلهما أداها قارئ المقام أحمد موسى مع فرقة الجالغي البغدادي.

مما ذكر الباحث والمؤرخ العراقي سيار الجميل في مقال "من أغنية زوروني الى أغنية عالروزانة» المنشور على موقعه في 23 فبراير 2020 عن تأصيل أغنية «عالروزنة» أنه قيل عنها الكثير، لكن الحقيقة تقول إن صاحب كلمات الأغنية هو عبدالله راقم أفندي الموصلي (المتوفى عام 1891 في الموصل)، ولحنها له صديقه الموسيقار الملا عثمان الموصلي، وخلال ترحال الموصلي انتقلت الأغنية إلى بلاد الشام ومصر.

و"عالروزنة» تحكي قصة عاشقين كانا يلتقيان خلسة وراء الروزانة "فتحة تطل على الشارع في البيوت القديمة"، لكن أهل الفتاة أغلقوا الروزانة، فارتحل العاشق إلى حلب، وكانت قصيدة راقم أفندي عن العاشقين.

ديوان راقم أفندي

نشر الجميل نص الأغنية كما وردت في الصفحة 133 من مخطوط ديوان عبدالله راقم أفندي:

عالروزانا عالروزانا روح الهنا فيها

احلف يمين الهوى نرجّع لياليها

وين اللي حبّوا قلبي ووين اللي عنو مالو

تاركلي الهم حبيبي وهو مرّيح بالو

يامن يردو جوابو او يبعت سؤالو

نستحلي كلمي قلو يفهم معانيها

ياولفي خدني من هجرك يكفاني

غيرك وحيات الهوى مالي حبيب تاني

اشون ترتاح فكاري ودموعي بأجفاني

والنوم مجافي عيوني وعاش السهر فيها

عالروزنة عالروزنة كل الهنا فيها

وش عملت الروزنة الله يجازيها

يا رايحين لحلب قلبي معاكم راح

يا محملين الرطب تحت الرطب تفاح

كل من وليفه معو وانا وليفي راح

يا رب نسمة هوا ترد الولف ليا

لاطلع عا باب الجسر واحدو مع الحادي

واقول يا مرحبة نسّم هوى بلادي

يا رب يغيب القمر لأقضي أنا مرادي

وتكون ليلة عمر، والسرج مطفية

ويتابع د. الجميل: هذه الأغنية مكتوبة باللهجة العامية الموصلية، وقد جرت بعض التبديلات فيها، فقد تغيرت كلمة "الرطب" العراقية إلى كلمة "العنب"، وتغير "وش عملت الروزنة» إلى «شو عملت»، وتحولت «قلبي» إلى «حبي»، وتبدلت «عا باب الجسر" إلى "عا راس الجبل" وتغيرت "واحدو مع الحادي" إلى "واشرف على الوادي".. وتبدلت "ليلة عمر" بـ "ليلة عتم" إلخ..

أما ما نسج من حكايات أخرى من قبيل أن الروزنة اسم لسفينة إيطالية أو غير ذلك، وأن الأغنية تعبّر عن تضامن تجار حلب مع أهل بيروت في زمن مجاعة مزودين إياهم بالقمح مخترقين الحصار العثماني، أخذين بدلاً عنه التفاح وقد وضعوه تحت العنب كي لا يكتشف أمرهم.. فحكايات لا أساس لها من الصحة.