البصرة في أواخر القرن التاسع عشر..كما يصفها البريطاني وليامسون

البصرة في أواخر القرن التاسع عشر..كما يصفها البريطاني وليامسون

محمد صالح عبد الرضا

وليامسون شاب بريطاني ترك بيته في بريستول ببريطانيا حينما كان يافعًا أواخر القرن التاسع عشر في سبيل اعتناق الإسلام إذ مر بمغامرات عديدة وركب الأهوال.

أدى فريضة الحج وعند إقامته بالبصرة تزوج من فتاة مسلمة وهناك سمع قصصًا كثيرة عن القبائل العربية المختلفة وتقاليدها بل عرفها جيدًا وخبرها حتى انه اطلع على جذورها وبات بإمكانه معرفة القبيلة التي ينتمي اليها كل من يزوره من الأعراب.

اخذ وليامسون يتكلم العربية الفصحى بل وحتى العامية.

كتب عنه في الخمسينات وستانتون هوب كتابًا اسماه (الهارب إلى الله) ترجمة اللبناني رضوان مولوي وصدر عن الدار المتحدة للنشر في بيروت عام 1974 وكان رضوان قد التقى وليامسون او الحاج عبد الله وليامسون او عبد الله المسلماني في مسكنه بمحلة (كوت الحجاج) بالبصرة ذلك البيت الذي كان في أخر طريق فرعية مؤدية إلى بستان مليء بأشجار النخيل فوجده يقرأ القرآن بصوت خفيف كان في الثمانين من عمره بخشوع وأيمان وقد ارتسمت على محياه علامات الهدوء بالرغم من العديد من الصعوبات الشاقة التي مرت به في حياته الطويلة التي استطاع الحاج عبد الله وليامسون ان يذللها جميعًا بقوة إيمانه وشدة إسلامه فقد خاض البحار وقطع ألصحارى وأخيرًا استقر به المقام في البصرة حيث شيد منزله المتواضع بنفسه وأحاطه بسور خشبي.

أتاح مؤلف الكتاب (الهارب إلى الله) للقارئ أن يتعرف على سيرة شاملة لحياة وليامسون ومغامراته العديدة التي تميزت بالشجاعة والأيمان الراسخ وهي تنبض بالحيوية والنشاط وقد وقع نص الكتاب هذا باللغة الانكليزية أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بيد رضوان مولوي الذي ترجمه إلى العربية أثناء أقامته آنذاك في فندق شط العرب في البصرة وامسك بالكتاب الذي وجده على الطاولة استعلامات الفندق وعندها خاطبه رجل منتصب القامة أمامه قائلا هل يعجبك هذا الكتاب وهو يروي قصة رائعة وفريدة لرجل ما يزال يعيش في هذه الديار وهنا انطلق مولوي لزيارة الحاج عبد الله وليامسون الذي كتب مشاهدات عديدة عن البصرة يقول فيها:

لم يظهر في البصرة خلال تلك الأيام أوائل عام 1890 ألا القليل من النفوذ الغربي، فالأتراك كانوا يحكمون العراق ولم يعد حكمهم بكثير من المنفعة على الاهالي.

ثم تلت حربان عالميتان فيهما كان الوجود البريطاني في قوته العسكرية وقد أفادت البلاد كثيرًا من الطرقات المعبدة وغيرها من منافع الحياة وكثيرًا ماكانت الطرق المائية الموحلة التي تستخدمها الأبلام، وهي مراكب أشبه بالجندول وغيرها من الأقنعة البعيدة تزدان في فصل الربيع بألوان شتى ومهما كان الامر فأنه وجد كثيرًا من الأجواء الشرقية قد تلاشت في كل من العشار وماركيل (المعقل) حيث حل محلها العديد من الأبنية والمكاتب العصرية ودور السينما والتكسيات والباصات ومراكز الشرطة والمقاهي التي يطلق أصحابها أصوات الراديو عاليًا، وعندما أقام وليامسون في ضيافة البسام لم يكن هناك سوى ممر واسع واحد مواز لقناة العشار يؤدي إلى البصرة القديمة، بدلا من طريق ممهدة معبدة وكان ذلك الممر أما يعج بالغبار أو يملأ بالأوحال وفقًا لأحوال الجو.

وفي تجواله بالاقنية التي تفصل بساتين النخيل بعضها عن بعض شهد وسائل الري البدائية، كما شاهد أوائل فصول الربيع وعمليات التلقيح التي يجريها الفلاحون لأشجار النخيل وطالما وجد فراغًا للتأمل في عوالم الدين الإسلامي بينما كان أصحاب رحلته يستريحون تحت مظله البلم الذي كان ينقله إلى تلك المناطق وكثيرًا ما كان يتأمل البدو الرحل وهم يرعون الخراف والماعز وكان يزور الزبير التي تبعد عن البصرة عدة أميال مارًا في طريقه بأطلال قديمة ممتعًا النظر في الأسواق المسقوفة حيث تعرض لبيع مستلزمات الإبل وكل ما تحتاجه حياة الصحراء.

وكان يتحين الفرص للإقامة في خيم البدو السوداء الضرورية خارج البلدة وقد ساعدته معرفته المتزايدة بعادات العرب ولغتهم على الثقة بالنفس ورباطة الجأش وبعد وصوله الى البصرة دعي لحضور احتفال بمهرجان تركي جلس في منصة الشرف خلاله السيد احمد النقيب وكان بين الحضور جموع من المسلمين (سنة وشيعة) وبعض اليهود والصابئة واثنان من الإرساليات الأمريكية البروتستانية.

في ذلك الاحتفال ارتفع صوت زوبمر من إرسالية مسيحية فجأة موجهًا كلامه لوليامسون (يا عبد الله لم أصبحت مسلمًا وتركت النصرانية) فتركزت العيون عليه فرد قائلا (أن الرد على سؤالك يحتاج إلى حوار ليس محله هنا وتمكن بعد نهاية الاحتفال من أن يقوم بعرض رائع في وجه خصمه مدافعًا عن حرية اختياره وحق كل إنسان في الاختيار، غير أن أحدًا لم يشك بصدق وليامسون.

لم يكن هناك مقيم في البصرة من الاوربين ألا القليل ومعظمهم كانوا وكلاء سفن إما البريطانيون فكانوا لسبب طبيعة انعزالهم يتجنبون أقامة علاقة اجتماعية مع السكان، وأما الألمان وهم فئة قليلة فكانوا يتصرفون تصرفًا وديًا من اجل غايات سياسية.

ويصف الزبير بأنها بلدة مسورة وفيها تجارة مزدهرة، معظمها مع بدو الصحراء ويتذكر أسواقها المكشوفة التي كان يسير فيها الإنسان وهي تعج بالعمل فيتقي الجو الحار خلال ساعات القيلولة ويجري فيها المهرجان الحافل الذي يسبق الحج حيث الحجاج العازمون على أداء الفريضة من بقاع شتى في الزبير في مخيم كبير كان ينمو يوما بعد أخر في الصحراء المحيطة.

ان كل حاجات الرحلة الطويلة معروضة في أسواق الزبير / أكياس وخيم وسجاد وأواني طبخ ودلاء جلدية، إما الضجيج فيها فكان يصم الأذان حيث الدلالون يرفعون أصواتهم منادين لبيع الحيوانات والأمتعة والمأكل، وشاهد الدنانير العثمانية والعملات الفضية الثقيلة بين النقود المتداولة، وكان سعر سجادة الصلاة ستة ريالات فقط والفروة الجيدة بسبعة ريالات.

ويجتمع خارج الأسوار حشد كبير حيث تباع الأحمال وجمال الركوب بعد مساومات لاذعة وكان هدير الجمال اشد صخبًا وضجيجًا مما جعلها تتغلب على جلبة البشر برغائها المتعالي ولا سيما عندما يأتي تاجر جديد بجماله فيساعده أصحابه وينصحونه بالاتجاه نحو الحشد، وانتقى وليامسون بمساعدة اثنين من بطانة العرب سبعة جمال للأحمال واشتراها مع عدة كاملة لكل واحد منها مع خيمة طولها خمسة وعشرون قدمًا.

كانت الخيام تصنع من القماش والأشرعة الخفيفة الوزن على طراز الخيم البدوية سهلة الطي والنشر والنصب وهي قادرة على الصمود في الحالات التي تهب فيها العواصف الرملية، وكان وليامسون يملك طقم قهوة كاملا وفناجين صغيرة ومحمصة وهاونًا ومدقه واوان لحفظ البن حبًا ومسحوقًا وكانت هذه الأدوات تحفظ في كيس له جيوب.

وفي واحة البرجسية التي تبعد قليلا عن الزبير كان أمير الحج يقيم فيها للانطلاق بالقوافل التي كانت تتحرك نحو الآبار للتزود بالماء وكان المخيم المضروب بجانب الواحة يعكس مشهدًا مهيبًا وبهيجًا حيث خيام الحجاج من نجد ومن البصرة والمحمرة والكويت تمتد بأنتظام وحيث الحجاج الفارسيون والهنود وخيمة الأمير تتميز بعلم الحج المصنوع من الحرير الأحمر والذي يبلغ عدة أقدام وطرز عليه (لا اله ألا الله محمد رسول الله).

في الثامن والعشرين من شوال تبدأ مسيرة ركب الحجاج تموج فوق رمال الصحراء مع صوت الطبول والتهاليل، وكان يحمل لواء الحج عربي على جمل ابيض ويأتي وراءه مباشرة الأمير ورجاله يتلوهم الشيوخ والرؤساء ثم عامة الحجاج على وسائل نقلهم الخاصة وكان هناك أكثر من عشرين كشافًا مدججين بالسلاح يتقدمون الركب.

كان معظم عناصر القافلة من الرجال الذين يتبادلون الركوب على فترات متقطعة والراجلون منهم يسيرون ألهوينا ومن الراكبين نساء أحكمن القناع وكان يوضع على عدد من الجمال نوع من الهوادج المغطاة بالسجاد والستائر المصنوعة من القماش المقصب أو المطرز التي تحتوي في داخلها على المساند الناعمة.

عن موقع (تاريخ البصرة)