عالم تشارلز سيميك الذي لا ينتهي..

عالم تشارلز سيميك الذي لا ينتهي..

أنديرا مطر

كانت أمي صغيرة من دخان أسود،

حملتني مقمطاً فوق المدن المحترقة،

كانت السماء مكاناً أوسع وأشد عصفاً من أن يلعب فيها ولد

وقد التقينا بكثير من أولئك الذين يشبهوننا

جميعهم كانوا يحاولون ارتداء معاطفهم بأيدٍ صنعت من دخان.

كانت السماوات السحيقة مفعمة بآذان منكمشة صماء بدلاً من النجوم.

هذا مقطع افتتاحي من قصيدة للشاعر تشارلز سيميك الذي ترجم مجموعته الشعرية «العالم لا ينتهي» الشاعر والمترجم السوري أحمد م. أحمد، ونشرتها الهيئة العامة في وزارة الثقافة السورية في دمشق مطلع هذا العام.

من هو سيميك؟

هو يوغسلافي الأصل، هاجر الى الولايات المتحدة في الخامسة عشرة من عمره، فنالت أعماله هناك «بلوز لا ينتهي» و«أن تخرج القطة السوداء»، و«فندق الأرق»، جوائز عديدة من بينها جائزة بوليتزر 1990 عن الكتاب الذي ترجمه أحمد. لكنه نال أيضاً جائزة مؤسسة ماك آرثر في العام 2007. هو يكتب بالانكليزية لكنه يعتمد على تجربته الذاتية في بلغراد مدينته الأولى التي مزقتها الحرب، وصاغ من صورها قصائد تدور حول الخراب المادي والروحي في هذا العصر. ولد تشارلز سيميك في 9 مايو 1938 في بلغراد، وله أكثر من 60 كتاباً موزعة بين الشعر والنثر والترجمة. نال العديد من الجوائز آخرها اختياره مستشاراً للأكاديمية الأميركية للشعر وحصوله على لقب أمير شعراء أميركا لسنة 2007. وهو يعمل أستاذاً للغة الإنكليزية في جامعة نيوهامبشير.

ناجٍ من الحرب

الكاتب ليام ريكتور يقول عن أعمال سيميك انها تصل الصفاء والأصالة التي لم يدركها أحد من معاصريه. أما فيكتور كونتوسكي فيرى أن انجاز سيميك يعتبر أحد أهم التجارب الشعرية المتأصلة في القرن العشرين. وكتب بيتر ستيت ان سيميك أمضى العقد الأول من حياته كناجٍ من الحرب العالمية الثانية في أوروبا الشرقية، وذلك بعدما أمضى سنوات عمره الأولى في بلغراد وأجلت الحرب عائلته مراراً هرباً من القصف العشوائي. وكان الشاعر قد قال في إحدى لقاءاته على موقع بورتلاند ريفيو «هتلر وستالين كانا وكيلي سفري»، ليستمر جو العنف واليأس بعد الحرب التي أرغمت والده على مغادرة بلغراد للعمل في إيطاليا، وحاولت والدته مراراً أن تلحق به لكن السلطات أعادتها المرة تلو المرة إلى أوروبا الشرقية فيما كان ابنها سيميك هناك.

في الخامسة عشرة من عمره رتبت والدته أمر سفره إلى باريس وبعد سنة قضاها في دراسة الإنكليزية في مدرسة مسائية، إلى جانب حضوره دروساً في مدرسة فرنسية حكومية نهاراً، أبحر سيميك إلى أميركا حيث أعيد لمّ شمل العائلة هناك. وانتقل مع عائلته إلى مدينة شيكاغو حيث أكمل دراسته السنوية في الضواحي.

الشعر والفتيات والجاز

أولى اهتماماً خاصاً بالشعر، وأوضح لاحقاً أن السبب الرئيسي الذي دفعه لاستكشاف هذا الفن هو رغبته في لقاء الفتيات. وبين شغف مبكّر آخر هو شغفه بموسيقى الجاز التي أحبها - ويقول انه سمعها للمرة الأولى في موقع عسكري أميركي في إيطاليا - نُشرت أولى قصائده عام 1956 عندما كان في الـ21 من عمره. وفي الخامسة والعشرين شرع بكتابة رواية ندم لاحقاً على كتابتها «لا بد أن تكون على درجة من الحماقة لتكتب رواية وأنت في العشرين. أتذكر انني كتبت الحبكة الروائية وفي الصفحة 55 توقفت لأن الأفكار نفدت مني»، يقول سيميك.

الريفية والفولكلور

بين عامي 1961 و 1966 التحق بالخدمة العسكرية في أميركا وكتب العديد من القصائد التي أتلفها. أما أولى مجموعاته الشعرية المكتملة فعنوانها «ماذا يقول العشب»، وقد نشرت في العام 1967 باللغة الإنكليزية، التي أخذ يترجم اليها نتاج عدد من الشعراء اليوغسلافيين.

وقد لاحظ أحد النقاد أن جوهر شعر سيميك المبكر هو أوروبي ريفي أكثر مما هو أميركي وحضري. فأروربا الوسطى الغابات وبحيرات الماء وآلات المزارعين، هي مصدر عالمه الشعري. ثم ان بعض قصائده تعكس نزعة سوريالية وميتافيزيقية، بينما تعرض بعض قصائده الأخرى لوحات واقعية كالحة من العنف واليأس، لكن ناقداً فنياً آخر يرى أن جذر قصائده الرئيسي يذهب عميقاً في الفولكلور الأوروبي. وهناك من ردّ تهكميته إلى يوغسلافيا. ذلك ان ماضي أوروبا الوسطى والشرقية ينبض في عروقه. تجارب الحرب في طفولته والفقر والجوع تكمن خلف كثير من قصائده على ما يؤكد بيتر ستيت، معتبراً أن أثر الأنظمة السياسية القمعية في حياة الانسان العادية هو ما يشكل عالم سيميك المخيف والغامض والعدواني.

عالم الشتاء والنأي

منذ عام 1973 درّس سيميك الإنكليزية والكتابة الإبداعية والنقد في جامعة نيو هامبشير في الولايات المتحدة الأميركية. وهي الولاية المملوءة بالأمكنة النائية عن الطرق التي تمتد شتاءاتها لتسعة أشهر، ويقول سيميك إن صبيتها الفقراء يمتلكون حيوات جوانية وانطوائية لأن ليس ثمة ما يفعلونه هناك سوى إمعان النظر في ذواتهم الداخلية. وعلقت ديانا انغلمان بأن صوت سيميك الشعري مزدوج ينطق بالأميركية وبالمنفى. فقصائده تقوم بتوصيل ثنائية المنفى في خصوصيتها، فهي في الوقت نفسه بيان أصيل عن الحساسية الأميركية المعاصرة وتقترح مجازاً لما هو صامت وأجنبي.

قبلة وهراوة وابتسامة

كتب سيميك مرة «عندما تبدأ بتدوين الكلمات على الصفحة ستتولاك حالة من التداعي لتقول في سرك فجأة: يا إلهي كيف دخل هذا في رأسي، لماذا هو مدوّن على الصفحة؟ وما أفعله هو أن أمضي إلى حيث يأخذني».

المترجم والشاعر السوري أحمد م. أحمد كتب مقدمة طويلة لترجمته قصائد سيميك، معتبراً ان في عالم هذا الشاعر «تنتظرك قبلة أو هراوة أو ابتسامة من سخافات المجتمع أو ذكرى مروعة كالحة من الحرب العالمية الثانية».

والحق ان ترجمة أحمد لهذه المجموعة لا تقل شعرية عنها في لغتها الأصلية.

عن صحيفة القبس