رحيل تشارلز سيميك: قصائدي أفعال حدسية تعكس نظرتي للعالم

رحيل تشارلز سيميك: قصائدي أفعال حدسية تعكس نظرتي للعالم

رشا عمران

في منتصف عام 2016 كنت مدعوة للمشاركة في الأمسية الافتتاحية لمهرجان برلين الشعري، وتشارلز سيميك كان هناك، مدعوًا مثلي للمشاركة في افتتاح المهرجان. يا لهذه الفرصة العظيمة ويا لتلك الرهبة والخوف: أن أقف على المسرح وأقرأ شعرا بعد تشارلز سيميك مباشرة، أحد أهم شعراء العالم المعاصرين بالنسبة لي وأحبهم إلى قلبي؛ لكنه كان فخرًا أيضًا واعترافًا بأن عطايا الشعر لا تنتهي.

حين وصلت إلى حديقة المسرح قبل الأمسية كان سيميك جالسًا هناك، رجل سبعيني أنيق ووسيم، تشتهي امرأة مثلي أن يكون رفيقها في الرقص، قلت له هذا بعد أن ذكرت اسمي ومن أين قادمة، ضحك وقال: حين عرفت أن شاعرة سورية سوف تقرأ بعدي بحثت عن اسمك عبر غوغل وقرأت عنك وعن موقفك مما يحدث في بلادك، وللأسف لا أعرف العربية بما يكفي لأقرأ المزيد لكنني مبدئيًا موافق على الرقص، سنسميها رقصة اللاجئين الناجين، فكلانا لاجئ وكلانا ناج من الحرب.

هكذا ابتدأ تعارفنا، بهذه البساطة الآسرة التي تشبه شعره، وأمضينا وقت المهرجان والتقينا مرات عديدة كان حريصًا خلالها على حضور الفاعليات الخاصة بنا نحن السوريين المدعوين إلى المهرجان، أو في الحقيقة كان دائمًا أول القادمين للحضور والاستماع.

أغرتني شخصيته بمحاورته، قلت له هذا واتفقنا على ذلك، لكنه قال إنه سيجري هو أيضًا معي حوارًا لصالح "نيويوركر ريفيو" عن سورية وعن الشعر! ثم انتهى المهرجان وعاد كل منا إلى وطنه البديل وتبادلنا الرسائل واشتغلنا على الحوارين معًا، وأنجزناهما في وقت واحد تقريبًا لأدخل المستشفى قبل نشرهما وأخضع لعملية قلب مفتوح وتغيير شرايين. عرف سيميك بما جرى معي فنشر الحوار نوعًا من الدعم المعنوي وأرسله لي منشورًا، أما حواري معه فنشر بعد مدة قصيرة في "ضفة ثالثة" حاولت خلالها كتابة مقدمة له فعجزت بسبب حالتي الصحية.

خلال السنوات الماضية بقينا على تواصل عبر الإيميل كل مدة، يسأل عن أحوالي الصحية وعن الشعر ويخبرني عن كتاباته الجديدة. آخر إيميل وصلني منه قبل عدة أشهر، بعد انقطاع طويل، أخبرني أن كتابًا جديدًا سوف يصدر له وأنه سيرسل لي نسخة منه.

رحل تشارلز سيميك قبل عدة أيام عن 84 عامًا، لم يتوقف خلالها عن كتابة الشعر مجددًا فيه باستمرار وبجرأة يحسد عليها فارضًا على الشعر الأميركي أنماطًا جديدة بالغة الثراء من قصيدة النثر، وخلال سنوات حياته ترجم العديد من كتب الشعر من وإلى الإنكليزية، وظلّ متابعًا ومعنيًا بالقضايا الإنسانية العامة مسجلًا موقفه منها في مقالاته التي لم يتوقف عن كتابتها طيلة حياته.

بمناسبة رحيله أجد أن إعادة نشر الحوار قد تكون بمثابة التحية إلى هذا الشاعر الاستثنائي الذي حصل عام 2019 على جائرة الأركانة العالمية للشعر، وهي أرفع جائزة شعرية عربية تمنح لشاعر.

هنا نص الحوار مع سيميك منشور يوم 3 نوفمبر 2016

لتشارلز سيميك مكانة رفيعة في المشهد الشعري العالمي. هناك عدد لا بأس به من قصائده، بل من أعماله الشعرية، مترجمة إلى اللغة العربية لإعجاب لم يحصل لشاعر أجنبي منذ فترة طويلة. ولا بدّ أن لهذا الاعجاب بشعره، وتعدد ترجماته، أكثر من سبب. قد يكون وقوع شعره بين عالمين، وثقافتين، خصوصًا حضور بلاده الأولى، التي كنا على تماس معها في العقود الماضية، ألا وهي يوغسلافيا. بيد أن هذا الحوار الذي أجرته معه الشاعرة السورية رشا عمران، ليس حوارًا عاديًا. وتجيء خصوصيته من كونه أدنى إلى لقاء شعري، أيضًا، بين عالمين مختلفين لغةً وجنسية.

(*) أشعر أنني واحدة من فئران التجارب الذين تحدثت عنهم في كتابك "ذبابة في الحساء". إلا أنني من فئران القرن الحادي والعشرين، وبدأت رحلة المنافي وأنا في سن متأخرة. رغم أنني انتقلت للعيش في دولة تتكلم لغتي، لكن شيئًا ما تغير في كتابتي وفي لغتي. أنت أتيت إلى أميركا في سن مبكرة، إلى لغة مختلفة تمامًا عن لغتك الأم، وعشت حياة طويلة عاصرت فيها كل المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. اليوم وبعد تاريخ طويل من الشعر، أتعتقد أن اللغة الشعرية تتغيّر وتتطور بفعل تغيير المكان واللغة، أم أن ما يطورها هو تأثير ما يحدث في العالم على المخيلة الشعرية؟

أتيتُ إلى الولايات المتحدة سنة 1954 وكان عمري خمسة عشر عامًا وبدأت بكتابة الشعر في السابعة عشرة، رغم توقد طموحي لأن أصبح رسامًا. وفي المدرسة تعرفتُ إلى صبيين شغفا بالأدب بقدر ما شغفتُ، وكانا يكتبان الشعر. ذلك ما حفّزني على كتابة قصيدة، لكنني كتبتها باللغة لإنكليزية لأن كلّ من صادقتُهم كانوا أميركيين، وأردتُهم أن يفهموا ما كتبت. هكذا بدأتُ الكتابة. ومع تقدّمي في العمر، تعرفتُ إلى شعراء ورسامين، بادئ الأمر في شيكاغو ثم في نيويورك وتابعتُ الرسم والكتابة من دون أن ألقي بالًا لما سأكونه بعد ذلك. وحيث إنني لم أكتب قصيدة واحدة بلغتي الصربية الأم، لم أعلم ما هي أوجه الاختلاف عن تلك التي كتبتُها بالإنكليزية، لكنني أتخيل أن ثمة اختلافًا بينها. فلكي يكتب المرءُ الشعر، عليه أن يكون متيّمًا بلغة ما وبالأدب الذي يُكتب بهذه اللغة، وقد عشقتُ الأدب الأميركي. وكما أن والديَّ لم يظنّا يومًا أننا سنمضي بقية حياتنا في الولايات المتحدة، لم أتخيل بدوري أنني سأكون شاعرًا أميركيًا. ومن أجل ذلك، أنا مدين بالشكر لهتلر وستالين.

«الترجمة هي العلاقة الأكثر حميمية التي يمكن للمرء أن ينسجها مع القصيدة، لذلك لا مفرّ من تسلل شعر الآخرين إلى دمائنا».

(*) يمكن وصفك بشاعر "متعدد الهويات والأمكنة"، لعل هذا ما يظهر في تنوع كتاباتك وتناقض عوالمها؛ بين السوريالية والواقعية والوضوح والفلسفة. وبالنسبة إلى قرائك، فإن شغفك بالفلسفة معروف. كيف استطعت، عبر هذا المزيج الغريب كله، أن تخلق لغة خاصة بك، عميقة إلى حد الغموض أحيانًا وسلسة إلى حد أنه يمكن لأي قارئ عادي للشعر أن يستمتع بها؟

نحن لاجئون، أو كما كان يحلو لهم أن ينادوننا بعد الحرب العالمية الثانية، نازحون، ممن لديهم حيواتٌ معقّدة للغاية، عبثية للغاية، مأساوية للغاية، وغير معقولة للغاية، وحدهُ تمازج الأساليب الأدبية يمكن أن ينصفهم. عندما يستفسر الناس عما إذا كنتُ سورياليًا، أقول لهم إني واقعيّ، من حيث إن ذاكرتي الحيّة الأولى تحفظ لحظةً انقذفتُ من فراشي لأقع على أرضية الغرفة وإلى جواري شظايا زجاج النوافذ المهشمة لدى سقوط قنبلة ألمانية، ثم اشتعال النار في بناء على الطرف الآخر من الشارع. كان عمري ثلاث سنوات، وكان التاريخُ السادس من أبريل/ نيسان سنة 1941، وفي ذلك اليوم كانت مواجهتي الأولى مع الواقع. كتابتي تعكس تاريخي الخاص وتواريخ الآخرين الذين مروا بما مررتُ به من دون أن يبرؤوا منه.

(*) على سيرة متعة الشعر، أظن أن مهمة الشعر الأولى - إن كان للشعر مهمة أو وظيفة -هي إعطاء جرعات مكثفة من المتعة الجمالية للقارئ، وهو ما أحصل عليه كلما قرأت قصائدك. أيمكن القول إن وظيفة الشعر، هي تقديم المتعة، أم ثمة وظيفة أخرى له في رأيك؟

أتفق معك. لا تهمني القصائد التي تنطوي على رسالة، ولا يعنيني كم هي سامية ومجدية. فمعظم القصائد لم تُكتب لسبب مهم يتجاوز إمتاع كاتبها أو إمتاع شخص آخر. في الآونة الأخيرة كنتُ أعيد قراءة كتاب قصائد قصيرة تعود إلى الزمن الذي كان فيه العرب في الأندلس. كانت تسمى casidas/ (القصائد) ولم تزل قراءتها ممتعة. من الجليّ أن غرض الشاعر الأساسي كان إمتاع ومؤانسة القارئ من خلال ابتكار استعارات بالغة الجرأة والأصالة في الخطاب حتى ليصعب على المرء نسيان القصائد التي تضمنتها.

(*) عوالمك الشعرية متنوعة جدًا وبالغة الغنى، فكل تفصيل مهما كان صغيرًا، يمكن أن يكون جزءًا من هذا العالم الشعري، وبرأيي الشخصي فإن هذا ما يميزك. كيف تستقرئ العالم بهذه الطريقة المذهلة؟ ما الذي يجمع بين الذبابة مثلًا وحوصلة الطائر وطبق الطعام، مع الحب والحرب والفقر والوجود؟ أقصد، كيف تمكنت عبر الشعر من تحويل تلك المواضيع الكبرى إلى تفاصيل يومية؟ كيف أعليت من شأن يوميات الحياة البسيطة ومفردات العالم، التي لا يكاد ينتبه إليها أحد إلى مواضيع كبرى؟

ليست قصائدي مسبقة التصوُّر، بل هي أفعال حدسية تعكس نظرتي إلى العالم. فقد أعمد إلى حشد الذهن يومَ أقف على مرتفَع وإلى جواري بعض المعجبين بالغروب، نعم، إنه أخاذ، لكنني أراهن على أن هناك في الأسفل امرأةً عجوزًا تعاني من وجع مبرّح في أسنانها، وزوجين يصرخ كلٌّ منهما في الآخر. كان الرسامون الهولنديون، مثل هيرونيموس بوش (Hieronymus Bosc) وبروغل (Pieter Bruegel) وآخرين، مولعين بمزج مكونات الواقع المتنافرة في لوحاتهم، وهكذا لا يعود الفردوس والجحيم مكانين منفصلين، بل المكان الواحد ذاته، حيث يمعن العشاقُ كلٌّ في عيني الآخر بينما تحترق البلدة في البعيد أو تغرق سفينة ما في عرض البحر. أليس هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ ننهض في الصباح والطيور تشدو والشمس تشرق لكي نشاهد في التلفاز صبيًا في حلب احترق وجهه حتى ضاعت ملامحه.

(*) أنت شاعر قدم إلى قصيدة النثر نوعًا من الشرعية "الفنية" إن جاز التعبير، بل وحتى الوجودية. وهو ما رفضته في البداية الجهة القائمة على جائزة بوليتزر. فهل السبب كتابتك قصيدة النثر بسبب أصلك الأوروبي، حيث ولدت هذه القصيدة؟ ثم ما هو وضع قصيدة النثر اليوم في الشعر الأميركي؟

كتبتُ قصائدي النثرية من دون وعيِ أنني أكتب قصائد نثرية. كانت تلك "القصائد" مجرد خربشات دوّنتُها في دفاتري على مدى أعوام، وذات يوم تنبهتُ إلى وجودها بل إلى أن هناك العديد منها، فجمعتُ بعضها ضمن كتاب. لكنني لم أكن الأوّل. فهناك عدة شعراء أميركيين كتبوا قصائد النثر قبل أن أكتبها وهناك آخرون فعلوا بعدي، لذلك، في هذه الأيام، لا يوجد كثيرون من أولئك الذين يتساءلون عن مدى أهلية هذا الطفل المسخ الذي يجمع النثر والشعر وينجح بطريقة ما في ألا يكون هذا أو ذاك.

(*) عدا عن أن شعرك ترجم إلى معظم لغات العالم، فقد ترجمت أنت أيضًا عشرات الكتب ومئات القصائد إلى اللغة الإنكليزية. لا أعرف لماذا أحس أن الشاعر حين يترجم قصائد غيره، يُدخل جزءًا مما يترجمه إلى لغته الشخصية. الشاعر الذكي هو من يستطيع إخفاء هذا التأثر ويترك قصيدته على حافة هاوية، فلا هي تسقط في حفرة التأثر الكامل ولا تقف وحدها معتمدة على الموهبة بعيدًا عن أية مؤثرات أخرى. قلة من الشعراء المترجمين نجحوا في هذا، حسب اطلاعي. وأظنك من هؤلاء القلة، أصحيح؟

أنتِ على حق. أشعر أن الشعراء الكثيرين الذين ترجمتُهم قد أثّروا فيّ. فالترجمة هي العلاقة الأكثر حميمية التي يمكن للمرء أن ينسجها مع القصيدة، لذلك لا مفرّ من تسلل شعر الآخرين إلى دمائنا. ولحسن الحظ، في مرحلة ما، يعي المرء أيضًا بالضبط كم هو مختلف كشخص عن ذلك الذي يترجمُ عملَه، بذلك يستحيل اندماج الملامح. وعلى سبيل المثال، أنا أجلّ شعر شارل بودلير، لكن هل أرغب في أن أكون مثله؟ أبدًا لن يحصل ذلك.

(*) الموسيقى والسينما والمسرح والرقص والفن التشكيلي بأنواعه، أظنها مؤثرات دائمة في الشعر. مما قرأته عنك ومن خلال شعرك، لاحظت هذا التأثير الذي لا يقل أهمية عن تأثير الفلسفة والفكر. أعرف شعراء كثيرين، يعتبرون في عالمنا العربي شعراء مهمين وربما في الغرب أيضًا، لا يهتمون بالفنون الأخرى، علاقتهم هي مع الكتب فقط. حين أقرأهم أشعر أن ثمة ما ينقص فعلًا في التجربة. برأيك أتكفي الكتب بما تحمله من تراث فكري إنساني لإثراء لغة الشاعر وتطويرها؟

لا، لا أظن أن ذلك يكفي. دعيني أورد مثالًا واحدًا: بالنسبة إلى الأفلام، مثل معظم الناس في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، كنتُ في صباي أشاهد فيلمين أو ثلاثة في الأسبوع، لأن أمي وجدتي كانتا تصحبانني إلى دار السينما حتى في خضم الحرب العالمية الثانية. كنتُ قد شاهدتُ مئات الأفلام حين بدأت كتابة الشعر، ولا بدّ من أن تلك الصور التي اختزنتها في مخيلتي قد تركت أثرها لديّ. وهذا ليس غريبًا بأي معنى من المعاني. فقد كان الناس الذين طمحوا إلى أن يصبحوا شعراء في فترة شبابي، مهتمين ببقية الفنون، لذلك كانت هناك مؤثرات عديدة أخرى. وقد كنت دائم الفضول حيال أشياء كثيرة، بدءًا من مضامين كتب الفلسفة، التي كنت أطّلع عليها في المكتبات، وصولًا إلى أم كلثوم التي أحب جدًا موسيقاها وأغنياتها. وأنا على يقين أنكِ تلقيت المؤثرات ذاتها.

«ليست قصائدي مسبقة التصوُّر، بل هي أفعال حدسية تعكس نظرتي إلى العالم».

(*) تعلمت من والدي، وكان شاعرًا معروفًا في العالم العربي، شيئًا مهمًا: حين عليك أن تختار بين الحياة والشعر، اختر الحياة، الحياة تأتي بالشعر إليك لا العكس. إلى أي حد تظن أن على الشعر أن يكون مغمسًا بتجربة الحياة الشخصية؟

كان والدكِ إذًا رجلًا عميقًا للغاية. ولطالما لمستُ ما قلتِ واخترت الحياة العادية، كالعمل لكسب العيش وإعالة الأسرة. الشعر فنٌّ يتطلّب الاطّلاع. فالشعراء يقرؤون ويعيدون قراءة شعراء الماضي ولا بأس في ذلك، رغم أن النظرية القائلة بأنه عليّ أن أكرس نفسي بشكل تام لفنّيَ بدت سخيفة بالنسبة إليّ على الدوام. كتبتُ عددًا لا يستهان به من القصائد في مطبخنا بينما كانت زوجتي تطبخ ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول الكثير من المسائل. لا أنكر أن المرء يحتاج إلى العزلة والجلوس لساعات ضاربًا الحائط برأسه، شرط ألا يجعل الأمر نوعًا من الرهبنة.

(*) في السياق نفسه، ثمة الملذات التي نعرفها في الطعام والشراب والجنس والسفر، أي الأبيقورية إن شئت. أنا من المنحازين لهذه الملذات. هل يعوض الشعر عنها أحيانًا؟ أو بمعنى آخر هل يمكن استبدال الملذات بكتابة الشعر؟

لا أنظر إلى الحالتين على أنهما في موقع التنافس أو أن إحداهما تقوم مقامَ الأخرى. إن لمتعَ الشعر خصوصيتها. فكتابة قصيدة أو قراءة قصيدة شأن نفعله لأجل أنفسنا وما يرشح في تلك اللحظات لا نشارك أحدًا به. وحين أفعل، أشعر بالارتباك، وكأنني أكشف عن أشياء ينبغي أن تبقى طيَّ الكتمان. كالعاشق الذي يثرثر متبجحًا أمام عشيقته في الفراش، وهذا ليس لائقًا. صحيح أنني لا أستطيع العيش من دون كتابة الشعر، غير أني أخشى من أن يصعقني البرقُ فيما لو قرأتُه بصوت مرتفع.

(*) أعيش وحيدة في القاهرة منذ أكثر من أربع سنوات. إنها المرة الأولى التي أكون فيها في وضع مماثل. خلال هذه المدة بدأت بالكتابة عن عزلة المرأة الخمسينية، رغم أنني أعيش حياتي بشكل طبيعي؛ أصدقاء وعلاقات وسهر وسفر. لكنني لأول مرة في حياتي أنتبه إلى معنى العزلة، أتأمل تحولاتها في داخلي، أحيانًا أعزو الأمر إلى سن الخمسين، هذه المرحلة الخطرة في سن المرأة. حين بدأت بقراءة كتبك التي ترجمت إلى العربية، لاحظت أنه رغم انتباهك إلى كل تفاصيل العالم، إلا أن ثمة تأملًا للعزلة خلف كل ذلك. ثم فكرت أن لدى كل من أحبهم من الشعراء، ثمة مساحة كبيرة للعزلة في شعرهم. هل الشاعر أساسًا كائن معزول من دون أن يعي ذلك، وبالتالي تظهر عزلته مهما حاول إخفاءها؟

أظن أن كلَّ من حظيَ بالشعور العميق والتفكير المنزَّه عن الأهواء، يفهم العزلة التي تتحدثين عنها. هل هناك من شاعر كبير منفتحٍ بشكل كلّيّ؟ لطالما ادّعى الشعراء الشيوعيون أنهم لم يحظوا بحياة جوانية ثم غالبًا ما خلصوا إلى أنهم عاشوها بعد فوات الأوان. العزلة هي ما يصلُ الشعراءَ بالبشر الآخرين، ولذلك تدوم قراءة الشعر. وهل من مكان سواه يستطيع البشر أن يجدوا فيه شيئًا من التسامح والسلوان في مواجهة مأزقهم الخاص؟

(*) رغم أنني لست من المعجبين بمصطلح "العزلة الوجودية" النخبوي، لكنني أعتقد أن عزلة الوجود موجودة لدى جميع البشر، وهي متلازمة مع النهاية؛ الموت. سؤالي: هل للشعر قدرة على إضاءة هذه المساحة في داخل الشاعر لتظهر في نصه؟

لقد قالها كبار الشعراء بكافة مذاهبهم واتجاهاتهم، ولا يعتريني أدنى شك في أنها لا تزال قابلة لأن تُقال من جديد. فالشعر الغنائي في مجمله يتمحور حول تجربة الموت، وهي الموضوع المفضل لهؤلاء الشعراء وشغلهم الشاغل. قد يكون الزمن غريمنا، لكن التاريخ غريمنا هو الآخر. أفكر بذلك الهول الذي جلب البؤسَ إليكِ وإليّ وبالأقدار الأكثر رداءة إلى ملايين الناس. وذلك الإدراك كامنٌ في باطن ذهني في لحظة الكتابة، من حيث إنني مدين له بهويتي، بالقدر الذي أدين بها لأبي وأمي الرائعين.

(*) حين أكتب شعرًا عن الحب أو عن المتعة الجسدية يقول لي بعض القراء: حتى في كتابة هذه المواضيع، تكتبين بحزن! رغم أنني في سياق حياتي اليومية لست حزينة. حين أقرأ قصائدك عن الحب أشعر بهذه البهجة التي تكتب بها عنه، بهجة الإيمان المطلق. الحب أحيانًا إيمان، بالنسبة إلي ليس إيمانًا مطلقًا تمامًا. أشعر أن الحب بالنسبة إليك يقين كامل، هل "يقينياتك" كثيرة؟

حتى قصائد الحب المبهجةِ حزينةٌ، لأن الزمن يمر ولن نعود شبابًا كما نحن في هذه اللحظة. لقد خرج الشعراء من خلال التأمل السطحي للزمن هذا بقصائد عظيمة في بحثهم عن سبل جديدة عبر قرون من ندبهم تلك الحقيقة المرة. حاولتُ أن أتجنب هذا الموضوع في قصائد الحب التي كتبتُها وأحتفي بلحظات نسياننا مصائرنا. وأما عن اليقينيات، فلستُ أدري كم لدي منها، لكن مهما بلغ عددها فإنها لم تُدخل السكينة إلى حياتي.

(*) قلت في أحد حواراتك، إنك "تشبّه الشعر بصندوق يتم فيه توضيب اللغة". الصندوق عادة مغلق، الشعر هو حالة انفتاح على العالم بأكمله، حسب ما أعتقد. هلا شرحت كيف يكون الشعر صندوقًا لتوضيب اللغة؟

يُحيلني سؤالك وإجابتي إلى أعمال الفنان الأميركي، جوزيف كورنيل (Joseph Cornell)، الذي اشتهر بعرض علب صغيرة ملأى بلُقىً عثر عليها في أثناء تجواله في مدينة نيويورك. والقصيدة، أيضًا، تبدو كواحدة من علبه، حافلة بالمفردات والصور التي عثرنا عليها في أثناء تنقيبنا في أعماق أذهاننا.

عن موقع "ضفة ثالثة"