من ذكريات الشاعرين الكبيرين..عندما أهدى الزهاوي ساعته الى الجواهري

من ذكريات الشاعرين الكبيرين..عندما أهدى الزهاوي ساعته الى الجواهري

محمد مهدي الجواهري

كان الفقيد الزهاوي رحمه الله يتوسط الدارة بين رائدين من رواد مجلسه هما اديبان معروفان توفي احدهما، وامد الله في عمر الثاني منهما.

واشد ما كانت خيبتي وانا اصطدم بنظرات الزهاوي الساخطة المخيفة. وبوجهه المتهجم علي حتى بعد مرور زمن طويل على ما كان بيننا.

وانعكست “ثقالتي” على الزهاوي على الاديبين.. ولم يكن ذلك لمجرد استجابة منهما لغضب الزهاوي.. ولكن بسبب منه وبسبب آخر هو عدم التجاوب النفسي بيني وبينهما.

لم يرحب بي الزهاوي.. وقد يكون “مساني بالخير” مرغما.. وبدرجة مقاربة كان ترحيب الاديبين بي.. فعقدت عليه وعليهما، وظللت اتربص ساعة الانتقام السريع، وحانت الساعة:

فبعد سكون ثقيل متكلف اعتقد ان وجودي المباغث كان شيئا مباشرا له، انبى الاديب الحي – وكان الوقت اصيلا – يستشهد على روعة الاصيل على دجلة بيت شعر وانا والزهاوي والاديب العراقي نفسه تعرف انه للزهاوي.. على الرغم من ان “الاديب العراقي” لم ينسب البيت.. ومعنى ذلك اجلالا للزهاوي، واقامة ما يتلى من شعره مقام الامثال المعروفة، وكان البيت كما اتذكر:

ان للشمس ان يحين الغروب

انرى روع الغزالة ذيب..؟

واهتز الزهاوي رحمه الله.. وبان السرور على عينيه الواسعتين، وامن الاديب المتوفي على روعة البيت بحركة، وبهزة رأس، وبابتسامة.

وسرعان ما وجدتني اتلقف الفريسة السانحة.. قلت:

يا.. لمن هذا البيت الركيك..! وتصور ما يبعثه هذا السؤال الخبيث في نفس الزهاوي..

وتلفت “...” الي وهو بين مترفق.. وبين متظاهر بالاستغراب.. وتلفت الاديب المتوفي وهو نفسه ايضا كما اعتقد يعرف ان البيت من شعر الزهاوي.. تلفت قلقاً..

وكل هذا كان شيئا هينا لما اتوقع.. وحدث ما اتوقع.

انقض علي “الزهاوي” الجليل.. وكأنه الاسد الجائع.. وطفر مسافة مترين من كرسيه الى كرسي.. ومد اصابعه الطويلة حتى لكادت تفقا عيني.. ثم صرخ بي صرخة ذاعرة..

هه.. انه – لاحد “الشعراء المتقاعدين..!” هل فهمت.. يا رجل.. لم يزد عليهما.. ولم يقل كلمة هجراً..

وتاثرت كثيرا لتأثره.. ومع هذا كله فلم ارد التراجع..

وقلت:

لعنة الله عليك يا صديقي “...!” لماذا لم تقل انه لاستاذنا الزهاوي..!!

ومع هذا يا استاذي الزهاوي.. فانه ركيك..!! وامعنت في الايذاء بان اوضحت له لماذا هو ركيك..

***

في هذا الحقل وفي معرض تسجيل ذكرى اليمة من ذكرياتي مع الفقيد الزهاوي عرفت قبل ايام صورة “اصيل لاينسى”..! مع السيد الزهاوي رحمه الله في مجلسه الاثير لديه “في مقهى رشيد” استثارني فيه الفقيد واستثرته ووكان موضوع الاستثارة ومحمولها وكل عناصرها الشعر والادب والنقد النزيه المجرد عن كل مساس بالكرامة.

وفي هذا الحقل اود ان اعرض باختصار صورة ضاحكة عن “اصيل اخر لاينسى” ابدا ومن ناحية معاكسة.

كان ذلك في يوم من سلسلة الايام المتلاحقة من ذخيرة سنين عديدة كلها كانت ضاحكة، بريئة، مع السيد الزهاوي.. ومع غير الزهاوي..!! ولكن مع السيد الزهاوي بصورة اخص، وكانت كلها ايضا ذات اصائل جميلة، رفرافة بالعاصفة والحب والذوق والطلاقة والانسجام.

كان مقهى رشيد موعدنا عصرا

وكنا من سابق اجلاسه

مجلس زانه الشباب واخلى

«للزهاوي” صدره والرئاسة

كان هذا الاصيل من اصائل الصيف.. وفي عام 1929 – وتاريخ نشر قصيدة النزغة يحدد ذلك بالضبط – وكنت انذاك ابن السادسة والعشرين او السابعة والعشرين وكان الشيخ الجليل الزهاوي قد تجاوز السبعين.

انني لن انسى (ساعة) الزهاوي الحبيبة الفضية ابدا.. لا انساها حتى بدون هذه الذكرى في هذا الاصيل الحبيب.. لا انساها لكثرة ما كان يخرجها من جيبه وعيونه النفاذة تخيفني.. ووداعة الانكسار تبين على وجهه المحبب ولطف الميلان برأسه وبذقنه يزيده روعة.. كان يفعل ذلك وهو يحدج من مجلسه ليتلقاني عاقباً وليريني وهو يحمل ساعته بيده انني قد تخلفت عن الموعد خمسة دقائق مثلا.

ولكنني وفي صدد هذه الذكرى بالذات وهي هذا الاصيل نفسه فان “ساعة الزهاوي” لتعيد علي – الى جانب شمولها وشخوصها – اكثر من معنى عميق من معاني شخصية الزهاوي المتعددة، فبعد دقائق معدودات من حضوري وبسبب من تداعي افكار وحوادث ومناسبات ابتدأ الحديث عنها يدور بيني وبينه اخذ الزهاوي رحمه الله يحدثني وهو يستعرض شيخوخته الراهنة عن مدى قوته التي كان عليها وهو في ريعان الشباب.

وعن مدى سمعة كل لذاته واقرانه في كل مقاييس القوة والصحة وثبات القلب وحيويته، وكان من تلك المقاييس مدى صبر الفرد على الغوص في الماء وهو مبهور الانفاس مقطوعها. كان الزهاوي وهو يحدثني عن هذا كله وعن فوزه على اقرانه في طول المدة التي يغوص فيها اكثر منهم يحرك ساعته بصورة غير ارادية وكنت لا اعرف السبب في ذلك. وسرعان ما عرفت فقد التفت الي الزهاوي فجأة ليقول لي وقد قطع حديثه.

افندم نتراهن؟!

على اي شيء يا استاذ؟

- على ان اقطع نفسي وتقطع نفسك و(الساعة) حكم بيننا!

كنت بين الدهشة وبين الانبساط والفرج وكان المجلس في مقهى رشيد عامرا وكانت العيون كلها تشخص الينا بطبيعة الحال، وسرعان ما وجدتني وانا مغرور بشبابي وفتوني اقول للاستاذ الزهاوي:

حاضر استاذ.. بي راح اغلبك.

- تغلبني او اغلبك افندم هذا ما يهم المهم انك لا تسرق ولا اسرق نفساً.

- قول شرف يا استاذ انني نفسا.

للقاري العراقي اليوم ان يتصور هذه الصورة تصورا عميقا الشيخ الزهاوي على وقاره وشيخوخته ومكانته، وكان انذاك عينا في مجلس الاعيان، وانا الشاب ابن السابعة والعشرين وفي مقهى حافل وعلى منضدة تتوسطنا قد وضعت ساعة مدورة غير صغيرة وكلانا يبدأ باشارة معينة ليقطع نفسه ويعيده حنينا الى صدره، للقاريء العراقي ان يتصور هذه الصورة الرائعة العميقة وتبرير مراميها الجميلة.. وتطلعت العيون كلها الينا. وحبست الانفاس وانتفخت الاوداج والعروق واحمرت الوجنات وجحظت العيون وابتدأت ثواني الساعة تتحرك بالدهشة.. ان الشاب ابن السابعة والعشرين بكل حيويته وقوة قلبه يستسلم صاغرا وياخذ النفس وهو يثب من على كرسيه ويقول يا استاذ كفاية.

لقد كسب الزهاوي ابن السبعين الرهان.

مجلة (الاديب العراقي) 1960