عمو بابا... الطموح إلى النصر الرياضي

عمو بابا... الطموح إلى النصر الرياضي

نص: منصف المزغني

1-

- كيف اجتمع العمُّ مع الأب في اسم طريف ظريف مثل «عَمّو بابا»؟

- في لحظة فارقة وصدفة عابرة، يمكن أن يتحوّل مجرى حياة إنسان، ويلاقي مصيرا لم يفكّر فيه، فقد يمنح الآخرون لشخص كنيةً لم يخترْها أبدا،

ولا مناص من فرصة عمر أو ضربة حظٍّ يحضر فيها القدر كما حدث مع الفتى الآشوري عمانويل داود (عمو بابا) ذي الـ16 عاما يوم شاهده المدرب والمعلق الرياضي العراقي الشهير إسماعيل محمد، وكانت المناسبة أن الفتى كان يلعب ضمن فريق مدرسة الحبانية الابتدائية لـ(محافظة الأنبار) عام 1950م. وأثناء بطولة مدارس العراق في ملعب الكشافة. وحصل هذا أيام الحكم الملكي في العراق.

2-

لقد التمعتْ عينُ المدرب العراقي إسماعيل محمد، مثل عين الجواهرجيّ الأصيل حين لمح لؤلؤة حقيقية تلمع في أرضية الملعب عام 1950!

إنّ المدرب الخبير حدس، بل وتأكد من أنه أمام موهبة رياضية واعدة صاعدة. لهذا، سوف يتقدم نحوه ويسأله عن اسمه، ويقسمه إلى نصفين. ويعوّض الجزء الثاني فيتحول (عمانويل داود) إلى «عمو بابا»، وسيعمل المدرب على إعادة توجيه هذا الفتى إلى ميادين رياضية أخرى كانت تأخذ اهتمامه مثل (ألعاب القوى) و (كرة المضرب) وكان بطل الرصافة فيها، وله في السباحة باع وذراع وشراع.

وَلكن تقدير المدرب كان يرى ضرورة توجيه الفتى اليافع إلى الرياضة الأشهر: كرة القدم.

3-

وفي العام 1951م، حين شارك العراقُ في الدورة العربية المدرسية في القاهرة، حرص المدرب إسماعيل محمد على إشراك «عَمّو بابا» في مباراة العراق ومصر. وبعد انتهاء الدورة قال له: «ستصبح علَمًا على رأسه نار في يوم ما!».

4-

ولكن «عمو بابا» سوف يعتزل اللعبَ مبكراً نتيجة إصابة، ويتوجّه نحو التدريب في عام 1966م، مع نادي المواصلات العامة في بغداد، ثم مع منتخب العراق العسكري لكرة القدم، وقاد الفريق للحصول على بطولة كأس العالم العسكرية لكرة القدم للأعوام 1972، 1977، 1978.

5-

حين تسلّم «عمو بابا» مهمةَ تدريب منتخب العراق لكرة القدم عام 1979م، فاز الفريق في تلك السنة بكأس الخليج العربي لكرة القدم، وقاد «عمو بابا» منتخب بلاده إلى حمل لقب كأس الخليج العربي في دورتيْ 1982 و1984، ووصل به إلى نهائيات الألعاب الأولمبية 3 مرات أعوام 1980 و1984 و1988، وتمّ على يديه إحراز كأس العرب، وذهبية دورة الألعاب الآسيوية.

وأشرف على المدرسة الكروية التابعة للاتحاد العراقي لكرة القدم. وقاد منتخب العراق أمام منتخب سوريا للتصفيات المؤهلة إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 1986 في المكسيك.

كما قاد «عمو بابا» فريق المنتخب العراقي في 123 مباراة دولية وودّيّة، وحاز الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الآسيوية في الهند عام 1982م، ولقب بطولة الخليج العربي ثلاث مرات، علما أنه صاحب أول هدف دولي لمنتخب العراق في عام 1957م، في شباك منتخب المغرب أثناء بطولة كأس العرب الثانية.

6-

لقد غدَا «عمو بابا» الاسم الحركي للنصر الرياضي في العراق، فقد كان من كبار صناع الفرح الرياضي العراقي في باب كرة القدم. لم يختلف العراقيون عليه، وفاز بحبّهم العابر للطوائف والملل والنحل والأحزاب والأديان والقوميات والأعراق في عراق يعجُّ بالأعراق والمشكلات الصعبة.

7-

وكرة القدم، كعادتها، هي اللعبة التي سهّلت اجتماع الشعب العراقي تحت مظلة واحدة في ملعب الشعب، حيث ينام في زاوية منه جسد «عمو بابا» الذي طالما لفت العيون إليه وحوله لاعبا، ومدربا للمنتخب الوطني العراقي. هذا الجسد الذي همد الآن، ودفن في زاوية من ملعب، روح ترفرف في ذاكرة أجيال عراقية عرفت حروبا متتالية. وحلمت بالنصر.

8-

كم كان «عمو بابا»، يشبه بابا نويل الذي يبشر الجميع بعربة محملة بالألعاب الطفولية، فقط، كان «عمو بابا نويل» يهدي الشعب العراقي ما يمكن أن يسلِّيَهُ من أهداف في شباك الخصم، وانتصارات كروية، وجوائز وطنية أو قومية وإقليمية، وكؤوس بطولة يعشقها العراقيون.

9-

... وكان «عمو بابا» من القلائل الذين يعاندون آراء عدي صدام حسين، عندما كان الأخير رئيساً، أو «مؤدِّباً» للفريق الوطني العراقي، الذي دربه «عمو بابا» لسنوات.

وإذ تجرّع العراقيون كؤوس السياسة ألواناً وطعوماً من الأسى الطافح بالدموع والدماء، فإن «عمو بابا» أهداهم لحظات من النصر في مجال كرة القدم وأسْكرهم بكؤوس من النصر الكرويّ الممزوجِ بالفرح الشعبي الخالص.

10-

حين توفي في 27 مايو (أيار) 2009، شهد تشييعَ جثمانه حضورٌ رسمي على أعلى المستويات، وأجريت مراسم جنازته في بغداد، وجاء في وصيته أن يدفن في ملعب الشعب، فكان روحاً ترفرف، وتشهد بتألّقه كلاعب ومدرب من طراز استثنائي وخاص.

11-

«بابا عمو»، «عمو بابا»... كان موضوع أغنيات شعبية، عكست حب الناس لرجل ساهم في إدخال الفرح على نفوس الشعب العراقي الذي كان يتوق إلى الحياة، ومثّل أيقونةَ حب وسلام عابرةً للطوائف والملل والنحل والقوميات والأقوام في بغداد التي كانت تسمى دار السلام.

عن مجلة المجلة