ناجية مراني شمعة عراقية مندائية لم تزل تنير الطريق بثبات وعزيمة

ناجية مراني شمعة عراقية مندائية لم تزل تنير الطريق بثبات وعزيمة

يحيى غازي الأميري

لم يقهرها جور السنين وقسوتها ، يضفي عليها الشيب وقاراً على وقارها ، رغم تقدمها بالعمر ، وما تحمله على كاهلها من إجهاد السنين القاسية لم تزل عالية الهمة متقدة الفكر ، متجددة العزيمة ، وفوق هذا تمتاز بنباهة عالية واضحة ، لم يبهرها نجاحها وحب الناس لها بل زادها تواضعا” وطيبة وتقديم المزيد من الخدمات .

ناجية المراني قلب لم يعرف الوهن والضعف والكره والحقد ، امرأة لم يعرف قلبها اليأس والقنوط ، متطلعة دوما إلى الغد المشرق ، ملتصقة بالحياة الاجتماعية تتابع التطورات والأفكار والأحداث ، تنهل باستمرار من العلم والأدب هكذا عرفتها وبدأت أتابع وارصد تطلعاتها وحياتها .

زاد إعجابي بها وأنا أتابع تطورات حياتها ، فهي من الرعيل الأول من المندائيات المتعلمات ،فهي معلمة منذ نهاية ثلاثينيات القرن (العشرين) في ريف العمارة ومدينة العمارة ، بالإضافة لخدماتها بالتعليم فهي ذات نشاط متميز في النضال السياسي التقدمي والدفاع عن حقوق المرأة.

تحال على التقاعد عام 1963 ، رغم الظروف الصعبة القاسية التي كان يمر بها البلد ، في تلك الفترة حيث أجواء ( انقلاب 8 شباط ) وما لحق بالبلد من قتل وتشريد وترويع و اعتقالات وسجون وقد أخذ الصابئة المندائيون حصتهم الكبيرة من ذلك ! رغم كل تلك الأجواء المرعبة ، لم تستسلم ( ناجية ) لليأس والأمر الواقع (التقاعد ) وجو الرعب والهلع يحيطها ، كانت طموحاتها وأحلامها تسير وفق رؤيتها المتفتحة لطلب العلم ومتابعة الأهداف وتحقيق الأحلام !!

في خضم تلك الظروف تقدم ناجية إلى الجامعة ( في بغداد ) لتحصل بعد سنوات دراستها الجامعية على بكالوريوس في الأدب ( لغة إنكليزية )، تسافر بعدها إلى بيروت / لبنان لتقدم على نفقتها إلى ( الجامعة الأمريكية ) فتحصل على الماجستير ( آداب لغة لإنكليزية ) تقدم على الدراسة على نيل شهادة الدكتوراة وتعد رسالتها وقبل مناقشتها ، تدخل لبنان الحرب الأهلية عام 1974 مما يضطرها العودة إلى العراق محملة برسالتها، التي أكملت إعدادها لتضعها على الرف وقلبها وعيونها عليها لعل يأتي الفرج يوما” لكن الفرج طال ولم يأتِ حتى غدا نسيا” منسيا”, لتبقى حاملة رسالتها معها في فكرها المتقد المتجدد .

لقد حققت ( ناجية المراني) نجاحات كبيرة جميلة نافعة للوطن والمندائية ، إضافة إلى سنوات خدمتها الطويلة في التعليم ، قدمت ناجية نتاجات أدبية جميلة عديدة تنوعت بين الدراسات والبحوث والمقالة والنقد والنثر والشعر والترجمة والتأليف وابرز و أكثرها شهرة كتبها ( مفاهيم صابئية مندائية ) فهو من الكتب المهمة التي لها الأثر الكبير في تعريف الراغبين بمعرفة المندائية وكذلك يعد مرجع مهم باللغة العربية للمهتمين والباحثين بالشأن المندائي من المندائيين وبقية الأديان الأخرى . لقد لاقى كتابها رواجا وشعبية في مختلف الأوساط المهتمة بالمندائية. علما إن الأستاذة ناجية تجيد اللغة المندائية قراءة وكتابة مما سهل نقل الصورة بالعربية بشكل دقيق وواضح . إذ تمتلك قابلية كبيرة بتطويع اللغة الأدبية ورصف مفرداتها مما يجعلها سهلة وممتعة في القراءة وبليغة ودقيقة بالمعنى المراد إيصاله للقارئ .

سوف أتحدث عن الصورة التي جمعتني بها ، وهي تقديمي للأستاذة ( ناجية ) في إحدى نشاطات القسم الثقافي ، لمجالس الطائفة المندائية في مندى بغداد عام 1997 .

فعلى مدى ساعتين و وسط قاعة مكتظة بالحضور ،و بعد أن اكتملت المقاعد المهيأة للجلوس بالحاضرين ، اصطف العشرات من المندائيين من مختلف الأعمار على جانبي القاعة ، وهم ينصتون بتحبب إلى صوت صديقتهم وهي تتلو محاضرتها التي أعدتها عن التاريخ الحديث للمندائيين ودورهم في بناء الوطن والحياة الاجتماعية والثقافية ، تناولت خلالها أحداث وتطورات أزمنة مرت ، و عن شخصيات مندائية متنوعة الإبداعات والمهن والحرف وووو ألخ .

وعلى مدى الساعتين لمحاضرتها شدت الحضور بخطابها حيث كانت تتكلم بنبرات صوت جميل الإيقاع فصيح اللسان واضح المقاصد .

سوف أحاول أن أسترجع وأستعيد الحالة لتلك الصورة التي كتبت بها رسالتي أدناه ، وبعثتها كرسالة إلى الأستاذة ( ناجية ) عندما كنت في عمان / الأردن بعدما كنت قد ذقت ذرعا بالوضع الذي يلف البلد ووصلت إلى أن اتخذ قرارا” مجبرا” عليه بالرحيل عن وطني بمحض إرادتي بعد أن قلبّت كل الاحتمالات باحتمال تحسن الوضع فلم أهتدِ إلى أي بصيص أمل ، لذا بعت بيتي وهو ملاذي وسكن عائلتي وكذلك بعت محل عملي وكل مافية من محتويات ( ذهب وفضة ) وكذلك أثاث بيتي وسيارتي ولم ابقِ أي شيء لي يمكن أن ارجع أليه في حالة فشل رحلتي وهجرتي إلى المجهول بعد أن عزمت وحزمت أمري ، وفي عمان وضعت كل ما املك بيد ( المهربين ) لغرض الوصول إلى أي بلد يقبلنا كلاجئين من وطننا الذي اصبح القائد الفذ وأزلامه يزيد من ضغطه ورعبه للمواطن الكريم بكل ما أوتوا من قسوة ، وبعد مخاض عسير ومعاناة قاسية أفلحت بالوصول لإحدى دول اللجوء ، إذ كنت خائف ومرعوب من فشل مغامرتي ، إذ كنت قد جربت مثل هذه المغامرة ( الهجرة بطريقة التهريب ) في عام 1992 فذقت التشرد والمأساة والنصب و ألاعيب النصابين وخداع المخادعين من المهربين وسماسرتهم كنت ( أنا وعائلتي ) وقد عانيت من جراء ذلك الفشل والخسارة المادية الكبيرة والمعاناة التي أرجعتني إلى نقطة الصفر حيث عدت إلى العراق ( بعد ستة أشهر من الوجع والترحال من دولة لدولة ) عدت محمل بالديون والهموم ، لقد كانت من التجارب القاسية الأليمة لي ولعائلتي ( أن لذلك حكاية سوف اكتبها ذات يوم. (

وسط هذا الجو النفسي وبعدي عن بلدي وأهلي وأصدقائي وأحبتي ، كنت أقلب مجموعة من الصور حملتها معي إلى عمان ، كنت وكأني اعرف ما سيلحق ببلدي سواء غادر صدام السلطة أو اجبر على مغادرتها أو بقي على سدة الحكم فقد خرب البلد ودمر العلاقات و أشاع سياسات تدميرية جند لها وهيئها من بعد سقوطه إذ جرى إعدادها على مدى سنوات طويلة لقد هيأ كل ما يضر الوطن والشعب وهاهي النتائج تظهر واضحة جلية للأعيان ، موت وخراب ودمار ورعب وتشريد وتجويع يلف الوطن ويخيم على الشعب ، كنت أتابع بشكل يومي أخبار الاستعدادات والمؤتمرات لتغير النظام الغاشم أتابعها من مختلف محطات التلفزة الفضائية وكذلك كنت اذهب كل يوم إلى جبل عمان ( الدوار الأول ) حيث هنالك مكتبة رائعة بكل محتوياتها إنها مؤسسة ( المرحوم عبد الحميد شومان )هذا الإنسان الرائع الذي وهب جزءا” من ثروته للعلم والمعرفة والثقافة ، أذهب لقراءة الكتب المتنوعة ومتابعة الأخبار والتقارير الصحفية و الدراسات حول العراق وخطط التغير المرتقبة.

كانت صورة أمي لا تفارقني وهي تذرف دموعها عند توديعي وصوتها يرن برأسي (( يمه يحيى يمكن أموت وبعد ما أشوفك ولا أشوف أولادك ، يمه أم مخلد ،أشو كلكم عفتوني )) وكأنني أعلم ما سيحل بها بعد سنوات فكتبت رسالتي إلى ناجية وبكيت من كل قلبي وأنا أكتبها، وأدناه اسطر كلمات الرسالة مرة أخرى ، وأنشرها على الإنترنت عسى أن أزيح هم يجثم على صدري من جهة وارسم بكلماتي صورة أخرى عن امرأة عراقية ( مندائية ) طيبة صادقة نزيهة و مربية فاضلة ، خدمت البلد والناس والمندائية وتستحق الكتابة عنها.

أدناه نص الرسالة القديمة

إلى الأستاذة ناجية غافل مران (( ناجية المراني )) المحترمة

تحية وبعد

في إحدى ليالي تشرين الثاني ، وأنا أشاهد قنوات تلفزيون عمان وهي تقدم العديد من البرامج الرمضانية ، وبينما كنت أشاهد أحد البرنامج بعد أن نام الأولاد ، جلبت مجموعة كبيرة من الصور التي كنت قد جمعتها خلال سنين الحياة التي مررت بها ، وصلت إلى صورة جمعتني في مندي الطائفة معك ، كنت قد قدمتك في ندوة ثقافية مندائية ، تفحصتها وتأملت فيها كثيرا ً و استرجعتني إلى أن أعيش جو الندوة وكيف شاء القدر أن أقدمك في الندوة ، وهذا شرف كبير لي أعتز له وفخور به ، مستمتعا كلما تذكرته .

وضعت الصورة إلى جانبي وذهبت إلى دولاب حديدي وضعت فيه مجموعة من الكتب والمجلات المندائية التي جلبتها معي من العراق .

وأخرجت العدد السادس من مجلة أفاق مندائية وقرأت قصيدتك الجميلة ) وصية(

في غــد يا أهلّ إن حم الرحيل ......... وانثنى خـلُ لتوديــــــــــع الخليــل

و استقرت خفقة فــــــــي جانحي ......... واهتدت روحي إلى النبع الأصيل

اذكروني وابسموا لا تحجموا ......... إنما الذكرى مـــــــــــن اللقـيا بديل

و احفظوا الـــــود الــذي خلفته ......... فــــــي كتاب عندكم حفظ الجمـيل

إلى أخر القصيدة

انثروا حولي زهور الياســمين .......... وجعلوا قبري فـــــــي ظل ِ النخيل

واعدت قراءتها عدة مرات وأصدقك ِ القول ذرفت من الدموع كثيرا ..... حتى اكتفيت لم أجفف دموعي بل تركتها تسيل كما تريد ، وبعدها سحبت نفس عميق ووقفت وأزحت ستارة الشباك ، وشاهدت منظرا رائعا ً لجبل يطل أمامي وقد ملأته الأنوار ، كانت السماء ذات زرقة صافية ينيرها بدر بهي شامخ .

فأمسكت قلمي وأني أعترف لك أني لست بشاعر ، لكن يعجبني في بعض الأحيان أن أكتب خواطر تكون أحيانا قصيرة وأحيانا لا بأس بها .

فكتبت لك هذه الكلمات :

إلى من لها في كل حديث روعة

تدخلين القلب بيســـر وســـرعة

وبهدوء بال تهدر .... كلماتك كالشلالات منفعة

جاعلة الحب دوما ..... متقدا ممتعا

ناجية انك ابتسامة بديعة ... يا أرق من زهرة ياسمين يافعة

لقد جئت بتحليلات بارعة

يا رب أحفظ لنا هذه الصانعة

و أنك بمقام أمي ... وليس لكلامي مرغبا لصانعة ..... وأنه رأيّ وليس لي به من راجعة ..... وسأجعل أولادي وكل من أعرفهم أن يعرف من هذه المرأة الرائعة .

عمان في الحادية عشر والنصف ليلا في 20ــ 11

واستهوتني أن أطول لك الرسالة بكلمات صادقة من (( جوه البي )) كما يقول المصريون ، فكتبت لك هذه الكلمات

ناجية نور صافي

زاهية لون الأطياف

حانية بصدق وافي

ورعة بتقوى الأسلاف

مكتنزة بالحب الشافي

ناجية نور السماء الصافي

زاهية لون طيف الأطياف

حانية بصدق رائع وافي

ورعة طيبا وتقوى الأسلاف ورعة طيبةً

مكتنزة المعرفة بالحب الشافي

ـــــ

ناجية كالنور تشع

ناهية عن كل بشع

ناهرة لكل مـُبتدع

مؤيدة لكل مخترع

مشجعة لكل مبدع

))ناجية أسطرلج هذن ... جلمات بس بيهن شجن ... وماعندي أكثر من هذن ((

ناجية بجسمي تسري ، فرحان بيها تسري .

فلو كنت شاعرا لجعلت أسمك يدور ، في كل البحور ، وعلى مدار العصور ، لعراقة الجذور ، ورهافة الشعور ، ولما بذلت من جهد صبور ، وحب وقور ، وعلم ٍ وفير ، ورأي جسور .... ولا أبقى هكذا ألف وأدور !!!!!

ختاما ً تقبلي فائق احترامي وتحياتي وأشواقي

يحيى غازي الأميري

عمان في الثانية عشر ليلا في 28 ـ 11 ــ 2002

أن الذي حفزني لكتابة هذه المقالة الآن ، خلال اليوم الثاني من أعمال المؤتمر الرابع لاتحاد الجمعيات المندائية في المهجر ، وقبل انتهاء أعمال المؤتمر بقليل رفعت إحدى المندوبات ( ........ ) يدها طالبة الكلمة ، فطرحت اقتراحا” بتثمين جهود امرأة مندائية ذات خدمات جليلة ودور متميز في الحركة النسوية المندائية (ناجية المراني ) واعتبار ذلك تكريم لدور المرأة المندائية , سُجل اقتراحها الذي أفرحني كثيرا ً، وحال وصولي البيت أمسكت قلمي وبدأت بتجميع أفكاري وكتبت مقالتي هذه ، مع تحياتي مرة أخرى إلى العزيزة الناجية أنجاها الحي الأزلي والى صاحبة الاقتراح الجميل المرأة المندائية .