الفنان العراقي سالم الدّباغ الذي رحل تاركاً  المربّع السحريّ  وأسراره

الفنان العراقي سالم الدّباغ الذي رحل تاركاً المربّع السحريّ وأسراره

مهى سلطان

خسرت الحركة التشكيلية العراقية أحد مبدعيها الفنان سالم الدّباغ، الذي رحل عن واحد وثمانين عاماً في الولايات المتّحدة الأميركية. نعته رئيسة الجمعية الملكية للفنون الجميلة في المملكة الاردينة الهاشمية الأميرة وجدان، ومدير عام المتحف الوطني الأردني ومجلس امنائه واعضائه.

وبرحيله يفقد المشهد التشكيلي العربي أحد أسمائه البارزين، هو الذي عاش في قلب الحداثة بل في زخمها الأقصى في عصر التجمعات الفنية التي تعتبر امتداداً طبيعياً لمثيلاتها في الغرب.

عُرف بتميزه في البحث والتجريب منذ بداياته، بأسلوب مغاير للمسار الذي بدأه الفنانون الرواد العراقيون في اشتغالهم التأسيسي على خصائص الفن الرافدي كتُراثٍ مُلهِم ودمجه برؤى الحداثة، فذهب بعيداً في استنباط روحانيات الشكل الهندسي حتى وصل الى التجريد الصافي.

يعدّ الدّباغ ايضاً أحد أهم رموز جيل الستينات في الحركة التشكيلية العراقية، الذي أحدث ثورةً في حركة الرسم والنحت، وتلاقت إنجازاته مع صعود الحركة الشعرية المجددة وكتابة القصة الحديثة، اذ يعدّ عقد الستينات بداية الثورة الثقافية في جميع أنحاء العالم كونه نتج من ولادة أفكار تقدمية وثورات تحررية تنامت بعد الحرب العالمية الثانية.

دخلت أعماله في مقتنيات عدة متاحف ومؤسسات ثقافية كثيرة منها مؤسسة شومان في الأردن.

وفي العام 2000، خصّص له الشيخ حسن بن علي آل ثاني، محترفاً في قطر مع مجموعة من الفنانين العراقيين الكبار منهم: ضياء العزّاوي واسماعيل فتّاح ونزار يحي ومحمود العبيدي وسعدي الكعبي وشاكر حسن آل سعيد.

شكّلت تجاربه الفنية جزءاً من المعرض الذي أقيم العام 2000 في متحف الشارقة بعنوان "مائة عام من الفن العربي الحديث"، كما عرضت أعماله في معرض الفن العربي المعاصر في دبي العام 2008، ومن ثم في المتحف العربي للفن الحديث في قطر العام 2010.

ولد الدّباغ في مدينة الموصل عام 1941، وكان هو والفنان الراحل راكان دبدوب، الوحيدين من مدينة الموصل اللذين تم قبولهما في معهد الفنون الجميلة، قسم الفنون التشكيلية (1958-1961).

وخلال دراسته في المعهد، تتلمذ على كبار مبدعي الحركة التشكيلية العراقية، مثل جواد سليم وفائق حسن واسماعيل الشيخلي وخالد الرحال، ثم تخرج متفوقًا ليلتحق بالدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة (1961- 1965) في بداية افتتاحها، وهناك دخل الدّباغ تجارب الحداثة في الفن التشكيلي متتلمذاً على البولندي رومان ارتموفسكي الذي كان يدّرس الغرافيك والطباعة الفنية، وكذلك درّسه الفنان اليوغسلافي بوركو لازسكي، أستاذ فن الجداريات.

عن بداياته، تحدثت الناقدة والشاعرة مي مظفّر تقول: "لم تكن للدّباغ علاقة وثيقة بالفن في طفولته. وعندما وقع بالصدفة على بعض الصور للوحات فان غوغ، شعر بالافتتان إن لم يكن بالنشوة أمام خصائصها الجمالية معتبراً فان غوغ أستاذه الأول».

أسس الدّباغ مع مجموعة من الفنانين العراقيين «جماعة المجددين» التي أقامت أول معارضها عام 1965 في بغداد، وضمت كل من علي طالب وليلى العطار وصالح الجميعي وطالب مكي ونداء كاظم، وسواهم من الذين يُعَدّون الجيل المكمّل لفناني الخمسينات.

اشتهر كفنان غرافيكي لا سيما بعد مشاركته مع رافع الناصري وهاشم سمرجي في المعارض التي أقيمت لفن الغرافيك في عدة مدن أوروبية منها لايبزغ (ألمانيا) ولشبونه (البرتغال) 1968، فضلاً عن مشاركته في بيانالات عربية ودولية.

ولئن كان التقشف هو سمة العمل الفني لديه، فقد طبع كذلك حياته بطابع البساطة والاكتفاء بالمنجز الفني بعيداً من ضوضاء الحياة اليومية والتنافس على المناصب الرسمية.

لقد اكتفى بمهنة التدريس في معهد الفنون الجميلة في بغداد (1971- 2000) منشغلاً في صرف أوقاته على الاجابة عن أسئلة اللوحة وعلاقتها بالداخل والمعطى الجمالي للتقنية وحيثيات النظام والتماهي مع الفضاء على أنه فراغ كونيّ كبير أو ركن صغير من اركان النفس (بين ثنائية الماكروزوم والميكروزوم). فالفراغ والفراغ ثانية انه الكيان المهيب اللانهائي الذي يحيط بنا من كل جانب والموجود بداخلنا.

«الفن فوق الواقع ليس له علاقة مباشرة به "كما يقول موندريان، كذلك كانت قناعة الدّباغ الذي تجرّد من الخوض في أي موضوع منسوب الى الواقع مبتعداً عن محاكاة الموضوعات اليومية أو الوقائع الحياتية، مكتفياً باستنطاق أحوال المربع على خطى ماليفيتش، أحد رواد الفن التجريدي المحدثين، الذي أدهش العالم بلوحة مربع أبيض داخل مربع أسود، والتي ألهمت جيل ما بعد الحداثة على استكمال التجارب حول تحولات المربع وعلاقته بالفضاء الثنائي او الثلاثي البُعد، حتى وصلت هذه التجارب الى المينمال آرت.

لذا هيمن اللونان الأسود والأبيض على لوحاته، وهما يتمثلان كلغة جمالية قائمة بذاتها شديدة البلاغة وقوية التعبير والتلميح والتأويل، لا تحتاج الى شيء إضافي كي تبوح بمكنوناتها، أو بما لديها من أسرار وتكهنات وتساؤلات، لأنها ترتمي بعمق في الروحانيات على قاعدة الصفاء الفكري والتأمل.

فالأسود والأبيض يظهران في حال الاندماج والتناغم والتكامل، يتقلبان في فضاء مجهول بين سحابات الظلمة والنور، مع تدخلات لونية طفيفة بين الحين والآخر (الأحمر أو الأزرق).

وإذا كان اللون الأسود هو مبتدأ اللوحة وأساسها التربيعي في تآليف موندريان، فالمربع الأسود الذي ينطوي عليه الخط الكوفي الشطرنجي ومصدره الكوفة في العراق، شكّل عاملاً مُلهماً للتجريد الغربي عموماً، على اعتبار انه المربع السحري الذي يخترق الزمان والمكان في المفهوم الفلسفي للتجريد الهندسي الاسلامي.

لم تكن تلك التوجهات بعيدة من ذائقة الدّباغ وثقافته وميوله، وإن أتى من مصدر مختلف قوله: "منذ بداياتي الفنية في لشبونة، شغفني الاهتمام باللون الأسود وذلك في مرحلة مبكرة، إذ خلال عملي كمدرّس في مدينة مكة المكرّمة، تأثرت روحياً ووجدانياً وجمالياً ببناء الكعبة المشرّفة، لذا تناولتُ في أعمالي طوال عقود من الزمن، تأثيرات كساء الكعبة الشريفة من خلال تناولي اللونين الأسود والأبيض: كساء الكعبة الأسود وجدارها الحجري الأبيض، فأضحى هذان اللونان منطلقاً حيمياً لتجاربي التجريدية».

الغيومية اللونية والشكل المنقلب من الأعلى الى الأسفل كحركة هبوط الى اللامكان، والبساطة المتناهية والانزياحات المكانية قد تكون من أهم السمات التي تميز أعماله. فهو فنان يعمل على الفراغ يؤسّسه ويؤلفه وينسقه، يسوق اليه بعض العلامات عبارة عن خطوط شبحيّة متأتية من ذكريات طفولته في الموصل، وإعجابه بمشهد النساء وهن ينسجن الخِيام البدوية من وبر الماعز، الى ذلك فقد استخدم الدّباغ وبر الماعز كمادة فنية في اعمال الكولاج قوله: "استعرته من الطبيعة واستخدمته لخلق مفردات جمالية».

المدهش في لوحات الدّباغ عموماً هو الحركة الخفيّة التي يصنعها التماهي اللوني الحثيث بين الأسود والأبيض، فاللوحة شبيهة بالعمل الغرافيكي سواء في الملمس أم الايهام اللوني فهي لا تتموج بل ترتجّ في إطار جوابها على تساؤل، هذا التساؤل الذي يتجسم هو نفسه في الحركة.

فالحركية ليست ملازمة للأثر ولكنها وثيقة الارتباط به، بما يثير الشعور بأن ثمة أشياء تتنقل ببطء في المكان المبهم، في مداراته ونيازكه وكواكبه ونجومه البعيدة، في حين أن الشكل هو معطى ملموس وغير محدد في آن واحد يحيل أحياناً الى مسبارٍ او سحابة كونية في عشواء الشعث البصري، البعيد من التحديد الشكلاني.

عن (النهار العربي)