العلامة الأثري بين الحداثة والتراث

العلامة الأثري بين الحداثة والتراث

وديع العبيدي

الاستاذ العلامة محمد بهجة الأثري نموذج للشخصية البغدادية العريقة - الشخصية العراقية الأصيلة- بعمقها التراثي وطابعها الوطني المتسامح الجامع في علاقة عقلانية منسجمة بين التراث والعصرنة، وبين الاعتزاز بالوطنية الصميمة والهوية الثقافية الاجتماعية للعراق.

شخصية افتقدناها مع الأيام وتعرضت للاندثار في النقلة الاجتماعية والسياسية العنيفة عقب الحرب العالمية الثانية، والتعبير الفج عن دكتاتورية الحداثة. تلك النقلة المستعجلة العنيفة من الملكية إلى الجمهورية، من التطور التدريجي الهادئ للشخصية الاجتماعية والثقافة الوطنية إلى التقمص السريع لأفكار التحديث والغربنة، ومن الحياة السياسية المشتركة إلى الحزبية الضيّقة المتعسفة والأيديولوجيا السيادية العمياء المنغلقة. وقد وصف عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي تلك الأزمة بعقدة (الأفندية). والأفندي في مفهوم زمنه هو -الحداثي-المتفرنج في ثيابه وسلوكه ولغته. لكن - الأفندية- ما كانت غير حالة متوسطة في الحياة العراقية، ومرحلة انتقالية بين الصورة التراثية والصورة الحديثة للشخصية العراقية. لقد تعايشت الصورة الأفندية والتراثية مع ظهور الدولة العراقية وجهود الملك فيصل الأول [1921- 1933م] لاحلال (السدارة) محلّ غطاء الرأس التقليدي البدوي (العقال واليشماغ). والواقع ان الطبقة المثقفة في العهد الملكي، أي النصف الأول من القرن العشرين كانت ترتدي السدارة باعتبارها رمزا حداثيا، مقابل اليشماغ البدوي أو العمامة الدينية. وكان العلامة الأثري والدكتور علي الوردي والزهاوي والرصافي والحنفي ورجال السياسة يرتدون السدارة، أسوة بالنخبة المثقفة وصورة الشخصية الوطنية العراقية يومذاك. وهي الصفة المميزة للشخصيات السياسية والثقافية والدينية المجددة يومذاك. لكن تلك الصورة تراجعت بعد الجمهورية. وتم اعتبار "السدارة" من رموز العهد – الملكي- البائد.

ليست الثياب والمظهر الخارجي هي صلب الموضوع، وانما الثقافة المتسامحة والعقلية المنفتحة ونبذ التعصب والانغلاق والفوقية. صورة الثياب الحديثة والممارسات السلوكية المنفلتة تجتمع اليوم مع قمة الانغلاق والتعصّب والارتداد الثقافي وسيادة العقلية البدوية الطائفية المتحجرة، والتي تدخل تحت اصطلاح – بدوقراط- من باب آخر. في هذه النقطة حاول البعض وسم العلامة الأثري بالسلفية، في إطار مقايسات التصنيف الطائفي لعراق الاحتلال والتبعية، وذلك ضدّا لكل تاريخه الشخصي ونشاطه الثقافي واستيعاب رؤاه التجديدية في اللغة والدين والتراث. وهو نعت حديث متأخر، على طريقة الوصفات الجاهزة والأكلات السريعة، وثقافة التهميش والاستئصال الشاعت عقب سقوط الدولة الوطنية. وفي ذلك يقول الباحث الاجتماعي فالح عبد الجبار، أنه (من المفارقة أنها تدعى بالحركة السلفية، وهي صفة مشتقة من السلف الصالح والذين يمثلون رمز الاسلام الأصيل، المعدّ مثالا أعلى خاليا من البدع)/ (كتابه: العمامة والأفندي).

والواقع ان العراق الثقافي منذ القرن الثامن عشر كان وثيق الاتصال والتواصل مع محيطه الثقافي وآفاق الحضارة الحديثة سواء في استامبول أو لبنان أو مصر، ومن الطريف أن تنشر الصحافة العراقية المبكرة قصيدة مواساة للشاعر الشيخ علي الشرقي عن حادث غرق سفينة تيتانك في أيامها الأولى. ولكن ثمة اهمالا متعمدا في دراسة بوادر التجديد والحداثة والعقلنة في الفكر والثقافة العراقية، لصالح تهييج الاتجاهات الأيديولوجية المتطرفة دينيا سياسيا، وبشكل يسهم في تشويه الشخصية الوطنية ومسخها في أسر التخلف والارتداد. وفيما تؤرخ دراسات مرموقة لبوادر النهضة والتجديد والتجدد في مصر ولبنان في القرنين التاسع عشر وبدايات العشرين، يسود تعتيم تام في الحالة العراقية. ومن هنا تظهر المسؤولية الاخلاقية والأكادمية لدراسة الاتجاهات الفكرية وبوادر التحديث والمصادر الأعلام العراقية منذ القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والاهتمام باستخراج الأبحاث والآثار من مظانها ومن أرشيف الآهمال والتغييب سواء في المكتبة الوطنية أو دار الحكمة أو المكتبات الجامعية والأهلية، لكشف الغبار والسخام عن الوجه الحضاري المبكر للعراق، ورفض اعتباره ساحة للتنافر الطائفي والسياسي الرخيص.

وما أحرى العراقي الأصيل المتنور ادراك معنى المدرسة العراقية البغدادية العريقة،وأن العلامة محمد بهجة الأثري والشيخ محمد رضا الشبببي والزهاوي والرصافي والدكتور البصير والعلامة جلال الحنفي وسواهم وصولا الى مدني صالح وهادي العلوي هم امتداد للمدرسة العراقية في التفكير والتجديد واتباع مذهب العقل والعصر، وما يحدث اليوم هو تدمير شامل للعقلية والهوية والشخصية والوطنية العراقية، بل ان ما يحصل هو صراع داخلي بين استعادة الشخصية الوطنية العراقية بتسامحها الاجتماعي وانفتاحها الثقافي، ذات الارث الملكي، ومحاولة الخطاب الطائفي السلطوي مسخ المجتمع وفق رؤيته الايديولوجية الضيّقة. وفي هذه النقطة، تعود خطورة استخدام البعد الطائفي (الأغلبوية) وسيلة لمسخ المشهد الاجتماعي والثقافي العراقي. تلك الحادثة العرضية في سيرورة البلاط الملكي، باسم الشعر، تحولت إلى خطاب سائد بعد سقوط الدولة (2003م)،وليس سقوط الملكية (1958م) فحسب!.

المشاركات الحيّة و ترجمة الفكر في الواقع..

تميّز الأثري بمشاركة مباشرة في الحياة العامة، الثقافية والسياسية، منها استجابته لدعوة الملك فيصل الأول ووقوفه إلى جانبه في بناء الدولة العراقية، ومشاركته في حفل استقبال فيلسوف الهند رابندرانت طاغور لدى زيارته العراق في الثلاثينيات، وتأييّده حركة 1941 الوطنية التحررية، وقد حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بسببها. وعندما تعرض الصحفي قاسم حمودي - رئيس تحرير جريدة الاستقلال- للسجن لمدة عام بسبب نشر جريدته قصيدة بعنوان (صنم العبودية) لصاحبها صقر (اسم رمزي لشاعرها عبد الحسن زلزلة دكتور الاقتصاد والأمين العام المساعد للجامعة العربية لاحقا)، كان العلامة الشاعر الأثري أحد المنافحين عنه، فتراجعت المحكمة عن قرارها وافرج عن الصحفي بعد انقضاء ثلاثة أشهر على الحكم. يومها أصدر حزب الاستقلال كراسا تضمن وثائق سير الدعوى والافادات المقدمة فيه. هذا الموقف الذي يجمع بين الوطنية وايمانه بحقوق الانسان، يتكرر أيضا في موقفه المنافح عن قضية استقلال الجزائر، كما تعبر عنه واحدة من قصائده التي يخاطب بها فرنسا.. مذكرا بشعارات الثورة الفرنسية التي أسست للدولة الحديثة والحياة العصرية..

باريس يا بنت الحضارة... ليت من ولدتك عاقر..

هل أنت من أحنت على الباستيل واصطلت النوائر؟

وأطحت طاغية الملوك كما يطيح الشاة جازر؟..

وفي صيف 1951 يدعى للمشاركة في مؤتمر الدراسات العربية في الجامعة الأميركية ببيروت ويلقي فيه محاضرة مهمة بعنوان (الاتجاهات الحديثة في الاسلام) تتضمن قراءة عميقة للتاريخ العربي ورؤيته في المعالجة والتهذيب والتجديد.

وعن تواضعه وسمات شخصيته العلمية ينقل الباحث والمؤرخ سالم الآلوسي قائلا: حضرت معه في الأكادمية المغربية، فخاطبه احد الحاضرين قائلا: يا استاذنا الأثري، أنت فارس المجامع العربية، فاعتذر منه الأثري، واجابه بأنه ليس من طلاب العناوين، وهناك من هو أجدر منه بهذا اللقب!.

وإلى جانب مجالات اللغة والتاريخ ونشاطه في الجامعات ومجامع اللغة العربية، كان موضع تقدير وحفارة الملوك والرؤساء في المغرب والسعودية والعراق. وفي سنواته الأخيرة كان أحد الذين يستانس الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالاستماع إليهم من بين العلماء والمفكرين. يذكر ان سكرتير الديوان -يومذاك- حامد يوسف حمادي اتصل به، يبلغه برغبة الرئيس في رؤيته، وان سيارة سوف تحضر لتقله للديوان، فاعتذر بمرضه وتقدمه بالسنّ، وبعد حين عاد واتصل به يخبره أن السيّد الرئيس سيزوره في منزله. ومن الشخصيات العلمية والثقافية الأخرى التي كان الرئيس السابق يستأنس بمجالستها الدكاترة راجي التكريتي وكمال السامرائي ونوري حمودي القيسي. وقد منح جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1986، جائزة صدام العالمية، كما منحته جامعة بغداد درجة الدكتوراه الفخرية عام 1994. وفي تاريخ 12/ 11/ 2010 أقامت دار المدى للثقافة والفنون في بنايتها الكائنة في شارع المتنبي احتفالية خاصة عن العلامة الأثري وأبرز آثاره.

من مبحث (الاستاذ العلامة محمد بهجت الأثري.. تجديد الدين وتهذيب التراث)