بهاء طاهر..ساحر أنضج مشروعه على مهل

بهاء طاهر..ساحر أنضج مشروعه على مهل

سعد القرش

قبل لقائى ببهاء طاهر سمعت عنه كثيرا، ولكن أحدا من جيله لم يذكر القدرة غير العادية لنظرته النافذة إلى ما وراء المنظور، إلى الروح، ربما إلى ما تفكر أنت فيه، فلا تستطيع المراوغة. قبل اللقاء كان اسمه يرد فى محاورات كنت طرفا فيها مع أبناء جيله:

عبدالحكيم قاسم خاصمه ثم صالحه ولكنه يعرف قدره، رجاء النقاش يحبه، فاروق عبدالقادر الذى لا يحب رجاء النقاش يتفق معه فى محبة بهاء، نبيلة إبراهيم ترى إبداعه نموذجا للسهولة الخادعة، صافى ناز كاظم تهوّن من كتابته. فى ذلك الوقت كان يقترب من الستين، وليس فى رصيده إلا ثلاث مجموعات قصصية: «الخطوبة» 1972، و«بالأمس حلمت بك» 1984، و«أنا الملك جئت» 1985، وثلاث روايات: «شرق النحيل» 1985، و«قالت ضحى» 1985، و«خالتى صفية والدير» 1991. وفى لقائنا الأول، لا أذكر متى بالضبط، وما يتأكد لى أنه قبل وقت كاف من صدور روايته «الحب فى المنفى» التى اصطحبها عام 1995، وعادا من غربته. ما أذكره بدقة أن اللقاء كان فى شهر يناير فى معرض القاهرة للكتاب، وسألته لماذا هو مقلّ، كأنه يتعمد ذلك؟ وكانت إجابته حاضرة، فلم يتكلم عن نفسه، وإنما ذهب بعيدا، إلى ابن المقفع الذى حجز لنفسه مكانة فى الأدب العربى بكتابىْ «كليلة ودمنة» و«الأدب الكبير والأدب الصعير»، فالكثرة والإغراق يدلان أحيانا على الفراغ.

ما لم يذكره لى أى من أبناء جيل بهاء هو الذكاء الحادّ، به يتفوق عليهم. يجيد الإنصات، ويعرف متى يتكلم، ومتى يقترب أو ينأى عن الصغار والصغائر، وكيف يرفع ثيابه فلا تلوثها معارك صغيرة. بحكم دراسته للتاريخ يأخذ نفسه بالشدّة، يعى أن الكتابة أطول عمرا من الكاتب، وتظل شاهدة عليه، بعد أن تطوى طيّ السجل؛ فيسائل الحرف والكلمة والجملة، لا فرق فى دقة تبلغ درجة الخوف والوسوسة بين نص سردى ومقال. وفى مجلة «سطور» كنت أتلقى مقالات يكتبها بعد مجاهدة، بالقلم الرصاص. وتحتفظ الأوراق بمباراة بين حذف وإضافات، شطب هنا، وسهم هناك يضع لفظا بديلا للمحذوف. بهذه الشدّة راهن بهاء طاهر على ما ينفع الناس، على ما يبقى بعد زوال الزبَد. ولعله من منفاه الاختيارى بسويسرا راقب، فى صمت ودهشة، صعود ظواهر مفتعلة، لا يزال أصحابها يقاومون النسيان بإلحاح إعلامى مبتذل يبلغ حدّ التشبع والملل والشفقة. والبعض سقط فى بئر عميقة يصعب انتشاله منها. أبرز سواقط القيد لا نعرف إن كان حيا أو ميتا، وكان الأكثر حظا وشهرة، إذ كتب يحيى حقى مقدمة روايته الأولى، وأخرجها صلاح أبو سيف للسينما، وحظيت أعماله برواج جماهيرى استثنائى، من سخونة المطبعة إلى السينما. وثانى سواقط حيّ، يرزق من سعة، ويطل بفجاجة من مقعدة بالعربة الأخيرة لقطار الحكومة، وقد شبط فى لحظة اختفاء القضبان.

فى ركن قصيّ، تمهّل بهاء فى إنضاج مشروعه، مراهنا على الزمن، فما يبقى بعد فورة الفيضان، هو اللؤلؤ. قرأ روايتى «حديث الجنود» «1996»، وقال: «لا تكن بخيلا، بعض المواقف الدرامية يلزمها إشباع». ونصحنى بالاحتشاد لمشهد نهاية الرواية، وفى عام 2002 أخبرته فى دردشة تليفونية عابرة بانتهائى من روايتى «باب السفينة»، وطلب قراءة المخطوطة. ثم دعانى إلى بيته، وذهبت مساء حتى منتصف تلك الليلة الرمضانية. هنأنى وأبدى ثلاث ملاحظات وافقته على اثنتين، وشكرته. سألنى: «زعلت؟». قلت: «إطلاقا، لسببين: دقة الملاحظات التى لم تكن مضطرا لذكرها، وأنك بهاء طاهر الذى لم يعهد عليه إلا الصدق». صمت وقال: «لأنى أزعل لو قيلت لى مثل هذه الملاحظات!»، وضحكنا. ثم جمعتنا مصادفة بأتيليه القاهرة، وسألني: لماذا لمَ أسأله عن رأيه فى روايتى «أول النهار»؟ وقد صدرت فى نهايات عام 2005. وقلت: أنا مثلك، لا أفعل ذلك مع مَن طلب نسخة، أو بادرتُ بإهدائها إليه، ليس أصعب من هذه المطاردة، ولعلك تعانى سماجة من يلحّون. وكنت فى انتظار بدء ندوة لمناقشة الرواية، بمشاركة كل من الدكتور محمد عفيفى وأمينة زيدان وأسامة عرابى. قال بهاء: «غلطان، كان يجب أن تدعونى لأستعد، لابدّ أن أشارك». وفاجأنى بكلام أخجلنى، وليس لديّ تسجيل صوتى له، ولكن أسامة عفيفى نشر تغطية للندوة فى مجلة «الموقف العربى» فى 17 يناير 2006.

مما نشرته مجلة «الموقف العربى» على لسان بهاء طاهر أن هذه الرواية» نوع من الكتابة الجديدة تماما. التاريخ الفانتازى، هذا ليس التاريخ الذى يحال فيه إلى العصر المملوكى أو إلى العصر العثمانى أو إلى العصر الحديث، هو نوع من التاريخ الفانتازى الذى اشتركت فيه مخيلة المبدع مع أصداء تاريخية دخلت فى وجدانه، وأعاد كتابتها فى صورة الفانتازيا الخلابة. هذه الرواية أجدها رواية فاتنة ورواية جديدة بكل معنى الكلمة، فهى إبداع جديد فى مجال التاريخ الفانتازى الذى لا أعرف هل كتب أحد فيه قبل ذلك أم لا؟ لكن التاريخ الفانتازى الذى أبدعه فى هذه الرواية يجدر أن نحييه عليه. أيضا دخول عنصر الأسطورة، وهى ليست الأسطورة التى ترجع إلى أسطورة معينة لا من ألف ليلة وليلة ولا من الأساطير اليونانية، فهى أسطورة من تأليف سعد القرش، فهى صياغات فانتازية وأسطورية من إبداع الكاتب نفسه، لذلك من الصعب اعتبارها رواية تاريخية أو رواية سيكولوجية». وسوف تجمع مصادفة أخرى بهاء طاهر بهذه الرواية، إذ فوجئت بما نشرته ماجدة الجندى فى صحيفة «الأهرام»، 12 مارس 2008، بوجود «أول النهار» فى القائمة الطويلة للدورة الأولى للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر 2008»، ضمن ستّ روايات مصرية، وهى القائمة الوحيدة فى تاريخ الجائزة التى لم يعلن عنها إلا فى حفل منح بهاء طاهر الجائزة عن «واحة الغروب».

رشح رجاء النقاش لجائزة مبارك، لا أتذكر بالضبط فى 2006 أو 2007، ولم يكن متفائلا بالفوز. وطمأنته بأن أغلب أعضاء المجلس الأعلى للثقافة أصدقاؤه، ويعرفون إنجازه، وضربت مثلا ببهاء، فقال لى النقاش بأسي: «بهاء طاهر مخلص لمؤسسة واحدة اسمها بهاء طاهر». ثم رشح رجاء للجائزة، وكان بهاء أيضا مرشحا فى السنة نفسها للجائزة، وبسلوكه الحسن وجّه الجائزة إلى اسم رجاء النقاش الذى توفى فى فبراير 2008، إذ أعلن بهاء يوم التصويت على الجائزة، فى يونيو 2008، تنازله عن الترشح للجائزة، وكرّس بذلك لأحقية رجاء النقاش بها، وكانت تلك فرصة رجاء الأخيرة؛ فقد رشح للجائزة وتوفى قبل التصويت، ولا يرشح للجائزة إلا من هم على قيد الحياة، ولو ضاعت الفرصة فلن يقترن اسم رجاء بالجائزة. وفى العام التالى، 2009، لم تكن مفاجأة أن يفوز بهاء بجائزة مبارك، للاستحقاق الأدبى، وردّا على سلوكه النبيل إزاء اسم رجاء النقاش فى العام السابق. وخلال ثورة 25 يناير عادت الجائزة إلى صدارة الاهتمام، وفى كتابى «الثورة الآن» فصل عن موقعة الجمل، 2 فبراير 2011، عنوانه «الأربعاء الدامى.. الثورة تختبر، وبعضهم سقط»، ذكرت فيه اتصالى ببهاء طاهر، وأننى اقترحت عليه أن أكتب باسمه بيانا يرفض جائزة مبارك. ضحك وسألنى: ومن أين أعيد قيمتها المادية؟ قلت إن الرفض الرمزى أقوى، ونحن بحاجة إلى إحراج نظام مبارك وزلزلته.

قلت إننى سأصوغ بيانا يفيد بأنه قبلها، باعتبارها جائزة مصرية، «والآن، وقد أهدر نظام مبارك دماء المصريين الطاهرة، فإننى أرد هذه الجائزة بكل راحة ضمير». بثّت رويترز البيان، وبعد يومين اتصل بى بهاء، وأنا أوشك أن أدخل ميدان التحرير، وقال إنه كان ضيف برنامج تليفزيونى قبل قليل، وأثنى عليّ. شكرته، وأتبع موضحا: «لم أذكرك بالاسم، ولكنى قلت إن كاتبا شابا هو صاحب اقتراح رفض الجائزة». هناك صنف من الناس لهم حضور خاص، لا تخطئهم العين ولو من غير معرفة سابقة، من هؤلاء بهاء الذى بحثت عنه الأضواء بحثا فى الثورة، من دون قصد أو تخطيط. وأكاد أعذر معظم أبناء جيله، وهم يحقدون على هذا الذى غاب طويلا عن مصر، ثم عاد كعصا موسى، وفى مارس 2010، كنت فى أبوظبى وشهدتُ بعضا من هذا الحسد. كنا، الدكتور فيصل دراج وأحد كتاب الستينيات وأنا، نتمشّى ليلا فى حديقة الفندق، وتكلم الكاتب عن كاتبيْن مصرييْن بضيق مستحق، فقلت له: «اللى حضّر العفريت يصرفه»، وضحك فيصل دراج، فأكملت: «أنت أسهمت فى صنعهما». ثم ذكر اسم بهاء طاهر، وكنت أظنه صديقه بحق، وقال بدهشة: «سى بهاء يتصرف باستعلاء، هم يعدّونه ليكون خليفة نجيب محفوظ». لم أسأله من يكون «هم»، وقدّرت ما يمكن أن يذهب إليه الضعف البشرى. وتخيلتُ بهاء أمامى، وقلت: منك لله أيها الساحر.

عن صحيفة الاهرام