وإنى سميتها «ضحى»

وإنى سميتها «ضحى»

اشرف عبدالشافى

ضحى.. أى فتاة تلك يارب العالمين التى تلهث خلفها أنفاسى ويلاحقها البطل فى الرواية حبا وغراما واحتراما وتقديرا وعشقا!، ضحى التى تعلمتْ العزف على البيانو وقرأت الروايات والقصص وحفظت معالم مصر وتاريخ قصورها وجمالها المعمارى قبل أن تأتى ثورة يوليو لتهدم الكثير منها.

ضحى التى امتلكت ناصية الكلام والثقافة وجاءت للعمل موظفة فى إحدى إدارات الترجمة المملوكة لدولة عبدالناصر، وهنا فى هذا المكتب المتواضع بعد أيام العز والثروة والجاه ستجلس فى مواجهة البطل: «تأتى المكتب دوما وهى تحمل كتبا وروايات فرنسية، أشعارا صينية مترجمة ومسرحيات يونانية قديمة وكتبا عن النحت، عن النبات، عن التاريخ.. تقرأ بنهم وترفع رأسها بين وقت وآخر لتقرأ لى بيتا من شعر أو جملة من حوار»، وكلّما مرّ يوم ازداد حضورها فى قلب صاحبنا الذى يعرف أنها متزوجة وأن موقفه غاية فى الصعوبة أمام شخصية بهذا الشكل من الاحترام والوعى، فوقع فى حيرة كبرى: «فكرت أن أطلب نقلى من المكتب.. ربما كان ابتعادى عن ضحى وسيلة لنسيان ذلك الحب الميئوس منه.. أظل معها فى المكتب بمفردنا ولا استطيع أن أصارحها ولا أن أعترف لأحد بهذا الحب غير المشروع.. وفى قرارة نفسى كنت أعرف أننى لن أطلب نقلى،كنت أستحث النهار أن يطلع كى أراها ولكى أعيش تلك الساعات من الحيرة.. جربت كل شىء، الانهماك فى العمل.. صرت أخلق أعمالا غير مطلوبة أنظم الملفات المركونة وأعيد رسم خرائط تنظيم الإدارة.. جربت أن أشرب أحيانا بالليل ثم كففت.. أن أمشى فى الطرقات.. وظل الخلاص من غرامها صعبا، كيف يقاوم فتاة تصنع الحياة من العدم وتعيد ترتيب الوجود كلما مشى بجوارها: «وكانت ضحى تقول ليست الشجرة خُضرة وظلاً فقط.. الشجرة تناديك أن تصعد معها إلى أعلى،لا بعينيك وحدهما، ولكن لتكون أنت السر الذى يصعد فى جوفها فتورق أغصانها وتحلق أنت بأجنحة خضراء للسماء.. رأيت بالطبع من هن أجمل من ضحى، ولكن عندما تتكلم لم أكن أعرف من يشبهها،أحملق فيها وأخفى دهشتى وأخفى حبى».

وضحى التى جاءت المكتب حاملة همومها على ظهرها تتوجس من الرجال وتخشى الثقة فى أحدهم، خرجت من قفص والدها الذى أراد لها أن تكون بديلا عن إنجابه الولد أرادها دمية يُحركها ليرضى غروره ويتباهى بها بين أقرانه، فهربت منه إلى قفص الزواج من شاب وسيم مدلل من النساء،كان يريدها الزوجة الذكية الجميلة التى تقيم الحفلات والولائم وتنجب له الأولاد بينما يعيش حياته الخفية اللذيذة بعيدا عنها!، وتكفلت «ضحى» وسط كل هذا بحماية كبريائها واحترام ذاتها.

ضحى هى أيقونة جيلى التى أهداها إلينا بهاء طاهر فى قالت: «ضحى» وخرج اسمها من بين الصفحات حيا نابضا يراود خيالنا ويوافق أمزجتنا ويرضى غرورنا ويعالج أمراضنا تجاه الأنثى، منحها بهاء طاهر القوة وألبسها ثوب الطفولة والجمال والبراءة والثقافة والوعى والثقة.. والقوة أيضا: «جميلة ضحى.. طويلة القامة.. وجهها متناسق الملامح.. لكن عينيها كانتا هما حيرتى، يعلوهما حاجبان طويلان، وكثيفان إلى حد ما، بامتداد العينين الواسعتين، لم أرها يوما تهتم بتزجيجهما أو تسويتهما، وكانا مع أهدابها الطويلة يعطيان إيحاءً بأن هاتين العينين مكحولتان باستمرار».. ومع ذلك فنادرا ما كانت ضحى تستعمل المساحيق والأصباغ فوق «بشرتها الشفافة».

على المقاهى المحدودة والمعروفة فى وسط القاهرة منتصف التسعينات ومع الصدى الواسع لـ «قالت ضحى» كان من الصعب أن تجد صديقا لم يقرأ الرواية، فكل ما فيها بسيط وجمال وآخاذ، ووسط حماسى الزائد دائما لكل ما هو جميل قلت لصديقى الشاعر «سيد محمود»: نفسى أخلف بنتا واسميها ضحى.. وقال هو: وأنا كمان يخرب عقلك، وخرب عقلى بالفعل وتزوجتُ قبله بعامين تقريبا وسبقته فى إنجاب البنت « ضحى».

لم يكن مسموحا لعقلى الباطن التفكير فى اسم لطفلتى غير «فريدة»، هكذا يقول وجدانى أيضا، هى أمى وتخليد اسمها فرض قلب، لكن ماذا فعلت بالأسماء يا ضحى؟، من أين جاء بريق عينيك وتسرب إلى قلبى؟!، قالت أمى رحمها الله «الضحى ده بتاع ربنا»، اعتبرت ذلك إذنا وتصريحا يريح ضميرى وأنا أكتب الضاد المضمومة مع الحاء الواضحة الحادة لتسحبهما الياء رافعة رأسها لأعلى.. هكذا.

وبالأمس وأنا أطلب منها الرواية التى تحتفظ بها فى مكتبة غرفتها وسط كتب السينما والمونتاج، نظرتُ إليها طويلاً، وتعجبتْ هى بعينين قويتين ضاحكتين: مالك يا بابا!، ولم يكن مالى، وإنما ثروة حياتى كلها، لم اهتم سوى بذكريات صغيرتى التى تجسدت فى لحظة أمامى حتى إن ثاء طفولتها الزائدة التى كانت تشبه السكر خرجت من بين فتحات أسنانها التى كانت صغيرة جدا ومحندقة جدا ومتكسرة جدا، فى ليلة من تلك الليالى البعيدة حملتها بين ذراعى إلى أتيليه القاهرة لأقول لبهاء طاهر «هذه ضحى يا عم بهاء»، وضحك الرجل الجميل خجلا وتواضعا وقبلّ جبينها الوضاح،ربع قرن مضى تقريبا،قلتُ لنفسى لقد كبرنا،وأخذتُ الرواية ومضيت متباطئ الخطوة لأستمتع بمرور عينى ضحى على ظهرى الذى انحنى قليلا. ومازال يستمع لتساؤلاتها عما اعترى والدها.

عن الاهرام