وظيفة هذا الرجل التضحية بروحه من أجلك..لقاء مع إبراهيم شندل أول مدير للاطفاء  في بغداد سنة 1957

وظيفة هذا الرجل التضحية بروحه من أجلك..لقاء مع إبراهيم شندل أول مدير للاطفاء في بغداد سنة 1957

مراسل مجلة (الأسبوع)

اذا احترق بيتك لا سمح الله.. ماذا تفعل؟ هل بامكانك إخماد النيران ((بسطلة)) ماء؟.

اذا شبت – النار في عمارة ضخمة منْ الذي يخمدها في ساعة متأخرة من الليل؟.. هل بالامكان تعاون الناس على اخمادها؟.

في سنة 1936 احترق احد البيوت الواقعة في محلة من محلات بغداد، واشتد لهيب النيران فيه وارتفعت ألسنة اللهب الى الطابق الثاني. وجاءت فرقة الاطفاء بعد لحظات من بدء الحريق.. ووجهت خراطيم الماء الى النار وانما تكاد تهدم الجدران باندفاعها وقوتها..كان البيت يعود الى احد البخلاء المشهورين بالبخل، وقد شوهد البخيل صاحب البيت واقفاً مرة في الخارج ولا يكاد يقف دقائق حتى يدخل مسرعاً الى البيت ثم يخرج راكضاً بنفس السرعة، وقد استغرب احد الواقفين هذا التصرف فأمسك بالرجل البخيل وسأله: ((شبيك شنو القصة؟ شكو بالبيت)) فأجابه الرجل:

- ((أخي دا أخاف عالبلوع لتنترس..)) فكانت نكتة ضحك لها الناس بدل ان يرثوا لحال الرجل.. ضحكوا لبخله وهو في أوج نكبته.

ان جنود مديرية الاطفاء يروون لك الاعاجيب اذا حدثت واحداً منهم... اعاجيب دامية تفطر القلب لما فيها من عنصر المأساة واعاجيب ضاحكة تفطر القلب لما فيها من عنصر الضحك. وبدل ان نروي لك شيئاً من تلك الاعاجيب، وبدل ان نقص عليك شيئاً ربما كنت تعرفه عن ((الاطفائية)) سنذهب معك الى هناك.. الى:

ابراهيم شندل..انه اللولب والمحرك والمدير وجندي الاطفاء وهو المراقب وكل شيء في هذه الدائرة.. قضى فترة طويلة من حياته وهو يصارع النيران، وقد سجل عدة انتصارات في كل سنة قضاها في هذه الدائرة.. انه يصارع النيران بفرقة لا تهاب الموت، فرقة الفدائيين الذين يحرسون بيتك ومالك، فرقة تعمل بكل همة ونشاط ورائدها في ذلك كسب لقمة العيش بوسيلة اكثر شرفاً، لانها التضحية بعينها، ولانها الفداء بعينه، ولانها الدفاع عن الآخرين..

انهما في الواقع اثنان.. شقيقان احترفا مهنة الحرب مع النار.. هذه مهنتهما منذ خمسة وثلاثين عاماً.. ألا ترى انه عمر طويل وزين بعيد..؟.

ان هذا الحر اللافح في اشهر الصيف القليلة نضيق به كلنا فكيف استطاع هذان الشقيقان.. ابراهيم شندل والاسطة علي مواصلة هذه الحرب طيلة ((35)) سنة؟ ألا ترى هذا شيئاً عجيباً. اذن تعال ايضاً معي نتحدث مع مدير الاطفاء العام.. انه الان في غرفته.. رجل في قسمات وجهه صرامة وطيبة، وفي عينيه قوة ولين وفي حديثه شدة عسكرية ممزوجة بالكلمات البغدادية الاصيلة الكلمات التي تحمل اليك معاني العطف والنجدة والترحيب وكل شيء جميل.. انه شخصية سالبة موجبة.. تماماً كطبيعة عمله.. فهو يمثل الماء البارد العذب الذي يطفيء ألسنة النيران. التقيت به بهذا الرجل في دائرته فطرحت عليه هذا السؤال..

الى متى يعود تاريخ الاطفاء في بغداد؟

- قبل احتلال بغداد من قبل الجيوش البريطانية كانت تقوم مفرزة من الجيش العثماني بمكافحة الحرائق التي كانت تحدث في ذلك الحين، وذلك بواسطة أدوات أولية.. وعند الاحتلال تأسست أول فرقة للاطفاء وكان ذلك سنة 1917 وفي سنة 1921 انتقلت ادارتها الى الحكومة العراقية.

ما هي الاسباب التي تؤدي الى الحريق.. وكيف تعملون لتلافيها..؟

- النفط عنصر هام من عناصر الحريق، وكذلك الأدوات النفطية التي تشكل معظم الاسباب المؤدية للحريق. ويمكن تلافيها بتنظيف هذه الأدوات بصورة دائمة، والحرص على عدم ترك الاطفال وحدهم بجانبها، وكذلك عدم ترك آواني الوقود على اختلافها بالقرب من مصدر النار..

هل يحدث تأخير في تلبيتكم نداءات الحريق من قبل الاهلين؟

- لا يوجد أي تأخير في تلبية نداءات الاهلين، وإذ حصل تأخير بسيط، فانما هو ناتج عن ازدحام الشوارع بوسائط النقل.. وقد فكرت مديريتنا بانشاء مراكز متعددة داخل حدود الامانة.

وبالفعل تم انشاء مركز اطفاء في قضاء الكاظمية، وتشمل واجباته ناحية الاعظمية ايضاً، كما سنباشر خلال هذه السنة بانشاء مركز اطفاء في الكرادة الشرقية وخلال سنة 1958 سنقوم بانشاء مركز اخر في جانب الكرخ.

وما هي أهم حوادث الحريق التي حدثت خلال تسنمكم هذا المنصب؟

- وقعت حوادث وحرائق مهمة في بغداد، وكان اخطرها الحريق الذي حدث في سوق الشورجة سنة 1939، وحصل فيه انفجار هائل نسف الخان الذي كان مخزوناً فيه مواد متفجرة كثيرة، كما تهدمت الدكاكين والمحلات المجاورة، وتمت المكافحة في هذا الحادث خلال ((248)) ساعة تقريباً وقد استشهد فيها اربعة من جنود الاطفاء واثنان من افراد الشرطة، كما اصيب ما يقارب الخمسين شخصاً باصابات مختلفة، وقد كنت انا واخي الاسطة علي من بين المصابين، فقد بقيت تحت الانقاض ما يقارب الساعة والنصف حيث نقلت على اثرها الى المستشفى.

هل طرأ تغيير على جهاز الاطفاء من حيث المعدات والوسائل الحديثة؟

- نعم.. فمديريتنا لا تألوا جهداً للحصول على آخر المبتكرات من المعدات والمواد والآلات التي تستعمل في مكافحة الحرائق. ونحن استوردنا فعلاً في الايام الاخيرة اجهزة خاصة لاطفاء الحرائق الناتجة من ألتهاب السوائل سريعة الاشتعال كالبنزين والنفط وغير ذلك هذه المادة تسمى ((سي اوتو دراي كاميكل)).

أود ان افهم هل تخصص امانة العاصمة راتباً لعائلة الجندي الذي يستشهد اثناء واجبه.

- نعم ان امانة العاصمة تقوم بذلك فعلاً، فهي تدفع لعائلة الجندي الشهيد نصف راتبه مدى الحياة.

ماذا لمستم خلال عملكم من الاهلين؟ هل هناك تعاون بينكم وبينهم؟

- الحقيقة اننا نجد تعاوناً صادقاً من الاهلين في بعض الحالات.

هل لك ان تطلب شيئاً من المواطنين اثناء حدوث الحرائق؟

- رجائي الاول أوجهه الى سواق السيارات الذين اطلب منهم عند سماعهم جرس سيارة الاطفاء فسح الطريق امامها حتى تتمكن من الوصول الى مكانها المقصود بسرعة.. ورجائي الثاني الى الاهلين كافة، ان لا يرتبكوا حين اتصالهم بالدائرة فيعطوا اخباراً مغلوطة، وارجو ثالثاً من الاهلين عدم التجمهر حول مكان الحريق فيحولوا بين الجنود وبين ادائهم واجبهم.

اذن هل لكم ان تحدثونا عن مركز اطفاء الكاظمية؟

- انه يتألف من مأمور المركز. واثنين من العرفاء وثلاثة سواق سيارات حريق فنيين و((16)) جندي اطفاء ولدينا هناك الجنود المهندسين الذين يحسنون القراءة والكتابة. ومأموران للبدالة في كلتى الدائرتين وهما من.. وهنا ارتأيت الانتقال الىمركز الكاظمية..

وهناك التقيت بمأمور المركز السيد فخري الزبيدي، وقد دهشت لهذه المفاجئة فهذا شاب فنان تخرج من معهد الفنون الجميلة.. وهو من خيرة الفنانين العراقيين ومن انجح الممثلين على المسرح وشاشة السينما. ولكنني لم استغرب وجوده في هذا المركز حين عدت وفكرت في طبيعة الفنان نفسه.. فالفنان يضحي باعصابه وروحه واوقات فراغه من اجل خير المجموع وخدمة المجموع.. لم استغرب ذلك ابدا. ولكنني خمنت ان فخري الزبيدي بملابس مأمور مركز الاطفاء ربما كان يمثل دوراً في فيلم جديد ولكنه راح يقسم اغلظ الايمان انه انما يقوم بهذه الوظيفة فعلاً.

مجلة (الاسبوع) ملحق جريدة الشعب لسنة 1957