جعفر السعدي والواقعية الشعبية

جعفر السعدي والواقعية الشعبية

د. عقيل مهدي يوسف

غالبا ما يجري الحديث عن روادنا باطار العموميات، دون ذكر المرتكزات التي ثبتوها علامات دالة في واقع مسرحنا..

وجعفر عمران السعدي واحد من الذين اصطلح عليهم بالرواد، حقق لنفسه مسارا واقعيا بعد ان درس على يد الشبلي وبعد ان اكمل دراسته في اميركا وربما كان اختياره للواقعية مرتبطا بالبيئة التي ارادها ان تفهمه فخاطبها بما درجت عليه من اساليب الخطاب، ولايخفى ان للواقعية أوجها عدة، منها ما يتعلق بشاعرية الفن ومنها ما يتعلق بالالتزام او بالصيغ الاسلوبية والتجربة..الخولكي نفهم واقعية السعدي، نتوقف عن كيفية تعامله مع الفن والحياة ونتحدث عن تجاوزه لتلك الاطر الطبيعية الضيقة في بداية مسيرته الفنية، بالرغم من ان تشكل استجابة تاريخية مطوية في زمنها لنصب معه الى تلك التجارب الواقعية المنفتحة على الحياة، بشكل اكثر غرابة وتنظيما، لاسيما في علاقتها بالمشاكل والاتجاهات والاساليب المعاصرة في مسرحنا، ان تطوره منذ ان شاهد اول مرة مسرحية ذي قار أو ذيول صفين، الى الان قد مر بمراحل عديدة ولكن هذه المسرحية التي شاهدها عام 1936 من تأليف سلمان الصفواني، فتحت مواهبه على قيم قومية وفنية..

وبعد ذلك شاهد مسرحية عن زرقاء اليمامة وفيها الكثير من الافكار الادبية والسياسية، ان هذه الخيالات التراثية، العذبة جذبت لصبي ليسهم في مسرحية مثلنا الاعلى، لعبد المجيد عباس في مدرسة المأمونية (اخرجهم ابراهيم المعروف) وهي مسرحية تنادى (بالوحدة العربية) اما في (مظالم الاستعمار) وهي عن الاستعمار الايطالي لليبيا فقد ادى دور الجندي وبعد ان وقع في يده ختم احدى الجمعيات المسموح لها بممارسة المسرح، شكل فرقة من الهواة، وذهب بهم الى بعقوبة.. (لم يكن متفرجوه سوى سكير واحد..) وبعد ذلك اشترك مع الشبلي في تقديم المسرحية الشعرية (فتح الاندلس) لمحبي الدين الخطيب، واختاره الشبلي بعد الدراسة المتوسطة للعمل في دار المعلمين لتكسر يده اليمنى وهو يتسلق جدار المسرح الصلب.. من اعماله المبكرة (فلوس) وهي مسرحية مترجمة عن التركية.. مؤلفها عبد الله فاضل، استطاع ان يحافظ فيها على (الافكار الاشتراكية) وفي حينها كان العراق يغلي كالمرجل، ليبارك (ثورة يوليو) في مصر وطوق المسرح بالحراب المقبورة، ولكن الضربة المسرحية قد نفذت. اما الحديث عن التكنيك الفني، فان الفطرة كانت هي الغالبة، وفي ذلك الوقت الذي لم تكن فيه الكتب الاختصاصية متوفرة، حصل عن طريق المصادفة على مجلد يضم المسرحيات الاتية (افول القمر او ست الدب- المفتش العالم)، عندما زار (محمد توفيق) هو وفرقته المصرية العراق في عام 1944 وهذا الامر يلقي ضوءاً على اسباب عودة السعدي الى اخراج هذه المسرحيات. منهجه الفني ثمة خصلة يتحلى بها السعدي، هي ادراكه لخطورة اللغة الفصحى، ولا يلتقي معه في هذه الخصلة من جيل الرواد سوى الفنان الاستاذ جاسم العبودي أما فيما يتعلق بالاسس التي يجدها حاسمة في عمله النظري والتطبيقي فهي.. الوضوح البساطة- الجمال (ويفهم من الجمال لا التشكيلات والتكوينات المبهرة، وانما كل ما يتعلق بالحوار والحركة والايماءة ووضوح الافكار في كل مشهد مهما كان مضمونه كي يصل الى المتفرج بطريقة عفوية ويستطيع الناقد ان يطبق عليه منهج (سانت بيف) ليرى شواهد عديدة عن كيفية انعكاس شخصيته على فنه، فهو صريح في خطته الاخراجية وواضح وبسيط لكنه يفكر بشخوصه كثيرا ويستبطن عوالمها ليكشفها لجمهوره الذي يتصوره على شاكلته، (جمهور) يهفو الى الاصلاح، كلما تلقى المأثرة التي يقدمها العرض.

انه ينتقل من الخاص الى العام، ومن الفردي الى النموذجي، فهو يجد في تصرفات شخصياته المسرحية، تصرفات أناس واقعيين يعرفهم تفصيليا وسبق له ان عرفهم في المدينة والقصبات النائية، انه يحذر شخصياته من الصلف والغرور ويرغب في الرد على تزمت البيئة لا بالمعنى (التناحري) بل بلغة نظر الاخر من خلال الذات وجعلها ميدانا تجريبيا: تظهر فيها الاخطاء، قلنا فيما مضى انه حريص على اللغة ومن حرصه انه يضع ثقته المطلقة بمعاجمها..وهذا الحرص تعلمه من رائد المدرسة الواقعية، ستانسلافسكي الذي يعده حجته العليا فهو (القواعد) وهو (الحق) وهو الذي يعطيك الواقعية بكل شيء وبشكل تلقائي، كما ان السعدي مثل استاذه يحرص على الايهام، او محاكاة الواقع، لان ذلك ضروري لمجتمعنا على وجه الخصوص، ولانه ما زال بحاجة للابهار، وكذلك فانه يحترم السلوك الطيب للفنان، ويدعو ان يكون (الممثل متصوفا وقديسا)، لقد شغلت السعدي موضوعات كثيرة فهو في (عذراء اللورين) يكشف عن تألب الشر على الخير، وفي (الدب) بين ان غريزة المرأة عندما تحب تنتصر على صفاتها المكتبية، كما تفرط الشمعة بقوامها الجميل من اجل الضوء، وفي بيت الدمية، ينتصر لحريتها في محاولة اثبات وجودها في البيت، اما في (اوديب) فلم تكن له رؤية جديدة سوى التركيز على (طرازها) الاغريقي، وفي (القيثارة) يبين ان الحب لايعرف الحدود ولا القيود.