خابيير مارياس... كاتب الذاكرة والماضي الثقيل

خابيير مارياس... كاتب الذاكرة والماضي الثقيل

إعداد: سماح عادل

" الشقة التي أمضيت فيها طفولتي، كانت مليئة بالكتب»،هكذا يقول الكاتب والروائي والمترجم الإسباني خابيير مارياس (1951 2022) عن طفولته في أحد نصوصه. هو الذي ولد في مدريد، لأب وأم كاتبين ومحبين للفن والكتب. والده هو خوليان مارياس، فيلسوف وكاتب معروف، مُنع من ممارسة التعليم في إسبانيا، بسبب معارضته لنظام فرانكو الديكتاتوري. هكذا، أمضى خابيير فترات من حياته في أميركا حيث مارس والده التعليم في جامعتي «ويسلي» و«ييل».

قبل بلوغه سن الـ 21، كان قد أنهى كتابة روايتين. ظهرت الأولى «الملاك من الذئب» عندما كان في التاسعة عشرة. علّق مارياس على تلك الفترة قائلاً: «كانت الكتابة حينها نوعاً من المحاكاة للأفلام الأميركية خلال الأربعينيات والخمسينيات، وهي كتابات شبابية لا تنتمي للسيرة الذاتية». منذ تخرجه، لم يكتب أي رواية على مدى ستّ سنوات، ليعمل على ترجمة الكتاب الإنكليز والأميركيين كوليم فوكنر، وولاس ستيفنز، وجون أشيبري. ومن هنا تأثر بفوكنر وكونراد وشكسبير. عاد بعدها إلى إسبانيا، ليتخرج بدرجة في الفلسفة عام 1973 من جامعة مدريد.

في عام 1986 ظهرت روايته «الرجل العاطفي» التي تتحدث عن مغني أوبرا يقع في حب امرأة رجل آخر، فتأتي روايته هذه كمديح للحب والوحدة. ظهرت لاحقاً رواياته الأخرى، «ظهر الزمن»، و«عندما رأيت ميتاً» و«رغبات ماضية» وترجمت إلى أكثر من أربعين لغة، وبهذا أصبح مرشح إسبانيا لنيل «جائزة نوبل» منذ عام 1989.

درّس مارياس الترجمة في «جامعة أكسفورد» وهناك ظهرت روايته «كل النفوس» التي تتحدث عن تجربته كأستاذ جامعي وعلاقته بطالب في الجامعة، وكانت الرواية الأولى التي ترجمت إلى الإنكليزية. كما درّس أيضاً الأدب الإسباني في جامعتي «أكسفورد» و«ماسوتشتس».

لم يمارس مارياس عمل الترجمة فحسب، بل جعل من شخصية المترجم وفكرة الترجمة بكل معانيها ثيمة رئيسية في رواياته، فرأينا كيف ظهرت لدى شخصياته تلك الرغبة الخفية للمعرفة وصعوبة الفهم، من مغني الأوبرا، إلى المخرجين، والجواسيس... كلهم كانوا يحاولون التواصل مع عالم صعب. يعتقد مارياس أن الترجمة هي الأهم بالنسبة إليه ككاتب، فقد ترجم أيضاً توماس هاردي، واسحق دينسن، وكان عاشقاً كبيراً لشكسبير، ومعظم عناوين رواياته مقتبسة عن مسرحيات شكسبير. يقول مارياس عن الترجمة: «إذا كانت لدي مدرسة في الكتابة الإبداعية كنت سمحت فقط بدخولها للطلبة القادرين على الترجمة».

ومع أن رواياته لم تكن سياسية، لكنها ناقشت القضايا التي تشغل المجتمع الإسباني منذ سقوط النظام الفاشي عام 1970 وهي الخيانة، والذاكرة، وعبء الماضي. يقول صديقه الكاتب إدواردو مندوزا إنّ كتابة مارياس لا تشبه كتابة أحد. من السهل التأثر بها، لكن من الصعب أن تقلَّد. في رواية «قلب ناصع البياض» (1992 ترجمها طلعت شاهين إلى العربية) يبحث خوان وزوجته لويزا عن ماضي أبيه المخفي وزيجاته الفاشلة، ويكشف مارياس قدرته على وصف التفاصيل والأحاسيس الغامضة وعلى الدمج بين التراجيديا والكوميديا. هنا أيضاً نكتشف تلك المعاني الخفية في حياة الشخصيات كأنها ترجمة من نوع آخر. استلهم الكاتب عنوانها من عبارة لشكسبير: «يداي من لونك، لكن يخجلني أن أحمل قلباً أبيض جداً». نالت هذه الرواية جائزة دبلن عام 1997 وهذا ما مكّنه من تكريس وقته للكتابة وصاحب كاتب عمود في صحف إسبانية مهمة.

بجمل طويلة، متشعبة، وقد تمتد إلى صفحات، يكتب مارياس رواياته بأسلوب متأثر بخوان بينيت، وتوماس براون وبروست. يقول عن أسلوبه في أحد حواراته: «سردي يقرأ بسهولة وبدون ثقل». ويقول مترجمه: «أترجم كتبه جملة جملة، قد تطول الجملة لتكون صفحة، لكني أستمتع بإعادة ترتيبها لتناسب السياق الإنكليزي وتقود القارئ بسلام نحو النهاية».

نرى العمق في الطرح في روايته «فكر فيّ غداً أثناء المعركة» (1994) التي تتجول بين مواضيع كثيرة منها الموت والعزلة والهوية في إطار تأملي ساخر. وتكمن قوتها في العدسة السردية المكبرة التي تتحرك ذهاباً وإياباً في المكان.

تبدأ رواياته عادةً بمشهد صادم، كحادثة انتحار غير مفهومة، موت حبيب في السرير أو ثلاثية عشق معقدة. في «غراميات» (2011 ترجمها صالح علماني إلى العربية)، حاول مارياس أن يبتكر عالم الجريمة، ويطرح أسئلة وجودية عن الحياة والموت والحب والخلود. يومها، شبّهها النقاد بـ «ماكبث»، بينما تتحدث عن ناشرة كتب تراقب زوجين مثاليين لتكتشف أنهما ليسا كذلك.

كان مارياس أيضاً رجل مواقف، فرغم أنه عضو في الأكاديمية الملكية الإسبانية، إلا أنّه رفض الجائزة الوطنية عن «غراميات»، قائلاً: «حاولت طوال حياتي أن أتجنب مؤسسات الحكومة، فلا أريد أن أرى ككاتب مفضل لدى الحكومة». هكذا أخبر جريدة «لوموند»: «لقد أوقفت الدولة دعمها للمكتبات، وبذلك أشعر أنه من غير المناسب قبول الجائزة».

يتحدث مارياس في رواياته عن الذاكرة كأنّ لها ثقلها الخاص، فالماضي دائماً يثقل الحاضر، كأن الشخصيات تحاول أن تجعل ماضيها يتحدث أكثر ويخبرها تلك الحقيقة التي نكتشف أنها نسبية. هناك خط رفيع يفصل الوهم عن الواقع، وهما عنصران هامان جداً في أدبه. تحاول كتبه أن تقول على طريقة ناباكوف بأن الذاكرة قد تكون خاطئة. هكذا ابتعد مارياس عما هو سائد في الأدب وعما يريده السوق، ليعبر إلى تلك المناطق المظلمة والخفية في النفس البشرية. عن عمر ناهز السبعين، انطفأ خابيير مارياس في شقته، هو الذي اعتبره النقاد الكاتب الإسباني الأهم، بل الأعظم منذ سرفانتس.

عن جردة الاخبار اللبنانية