في ذكرى وفاتها في 9 تشرين الأول 2007..كيف أختيرت نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات سنة 1959؟

في ذكرى وفاتها في 9 تشرين الأول 2007..كيف أختيرت نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات سنة 1959؟

موفق خلف العلياوي

في الرابع عشر من أيار 1959, ألقى الزعيم عبد الكريم قاسم خطاباً بمناسبة عقد مؤتمر اتحاد الصناعات في الجمهورية العراقية, لمح فيه بشكل غير مباشر إلى الشيوعيين بأنه يعمل على إشراكهم في الحكم, إذ قال: « أنني نصير الفقراء ونصير العامل ونصير الفلاح ونصيركم, وأنني نصير المرأة وأنتصر إليها فأن المرأة أيها السادة لأول مرة في تاريخ المشرق العربي سوف تشاركنا في الحكم, أيها الأخوات أيها السادة أن المرأة قريباً سوف تشاركنا في الحكم وسوف تكون عضواً في الوزارة القادمة».

كان ذلك الخطاب إشارة واضحة إلى الدكتورة نزيهة الدليمي, المقربة من عبد الكريم قاسم, الذي عدها شيوعية لكنها غير مرتبطة بالتزامات تجاه الحزب الشيوعي في ذلك الوقت, حسب ما أكدته البرقية التي بعث بها همفري ترفليان إلى حكومته في التاسع عشر من تموز 1959اذ يقول: « أطلعت على تقارير سرية تشير إلى أنه في أيار من هذه السنة, عدها قاسم (ويقصد نزيهة الدليمي). شيوعية ولكنها غير مرتبطة بالتزامات تجاه الحزب الشيوعي في الوقت الحاضر. ولذلك فقد يكون صحيحاً أيضاً أنها أبعدت نفسها عن الحزب بشكل وقتي أو دائمي. وأنني أنقل أليكم هذه المعلومات لأنني أعتقد بأنها صحيحة على الأكثر. وقد تكون هذه المعلومات متطابقة مع خطة قاسم الواضحة بأن يضع في حكومته عدة أشخاص من ذوي الميول الشيوعية, ولكنه في الوقت نفسه لا يدع مجالاً للحزب الشيوعي أن يكون ممثلاً في الحكومة بصفته حزباً «.

في الخامس من تموز عام 1959, عقد الزعيم عبد الكريم قاسم مؤتمراً صحفياً قال فيه: « أن التعديل الوزاري قريب جداً وقاب قوسين أو أدنى وان المرأة عندما تشترك في الوزارة فهي تمثل المرأة مهما كان عددها, ليست القضية قضية العدد وإنما الأصل هو المبدأ.... أن المرأة ستشترك في الوزارة قبل ذكرى ثورة 14 تموز»

في الثالث عشر من تموز عام 1959, صدر المرسوم الجمهوري رقم 480 بالتعديل الوزاري الجديد, وهو الثالث منذ قيام الثورة. وكالاتي:

« استناداً إلى المادة الثانية من قانون السلطة التنفيذية رقم 74 لسنة 1959 ونظراً لاستحداث وزارات جديدة وإلغاء وزارات أخرى أو بتبديل أسماء بعضها وضرورة إشغال المناصب الوزارية الشاغرة قبل يوم 14 تموز 1959 وبالنظر لما تقتضيه المصلحة العامة رسمنا بما هو آت:

أولاً: تبدل أسماء الوزارات التالية كما في أدناه:-

- وزارة التربية والتعليم بوزارة المعارف.

- وزارة العدلية بوزارة العدل.

- وزارة المواصلات والأشغال بوزارة المواصلات.

ثانياً: تلغى الوزارات التالية على أن تندمج بوزارات أخرى وفقاً للقانون رقم 74 لسنة 1959.

– وزارة الاقتصاد.

– وزارة الإعمار.

ثالثاً: تستحدث الوزارات التالية:

- وزارة التخطيط.

- وزارة البلديات.

- وزارة الأشغال والإسكان.

- وزارة النفط.

- وزارة الإصلاح الزراعي.

- وزارة التجارة.

- وزارة الصناعة.

رابعاً: يعين الوزراء بالمناصب التالية:

الدكتور طلعت الشيباني وزيراً للتخطيط بدلاً من وزارة الإعمار.

الدكتورة نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات.

السيد عوني يوسف وزيراً للأشغال والإسكان.

الدكتور فيصل السامر وزيراً للإرشاد.

السيد عبد اللطيف الشواف وزيراً للتجارة.

الدكتور إبراهيم كبة وزيراً للإصلاح الزراعي ووزيراً للنفط وكالة.

تسند وزارة الصناعة بالوكالة إلى السيد محمد حديد وزير المالية.

خامساً:على رئيس الوزراء تنفيذ هذا المرسوم. كتب ببغداد في اليوم السابع من شهر محرم الحرام سنة 1379هجرية المصادف لليوم الثالث عشر من شهر تموز سنة 1959م.

رئيس الوزراء مجلس السيادة «.

وبصدور ذلك المرسوم, شغلت الدكتورة نزيهة الدليمي منصب وزيرة البلديات, لتكون أول امرأة في تاريخ العراق والمشرق العربي الحديث تصل إلى منصب وزاري, وذلك بعد أن أصبح المرسوم الجمهوري سابق الذكر نافذاً من خلال نشره في جريدة الوقائع العراقية.

تعددت الآراء في موضوع تعيين الدكتورة نزيهة الدليمي في منصب وزاري, فمنهم من يعتقد بان عبد الكريم قاسم أراد أن يعد ذلك مظهراً من مظاهر تقدمية نظامه, وأن يثبت للعالم الخارجي أن العراق أول دولة عربية تقدم على مثل هذه الخطوة, في حين عده آخرون حلاً وسطاً أكد استقلالية عبد الكريم قاسم من جهة, وهدأ الشيوعيين من جهة أخرى, مقابل التراجعات التي قدموها بإيقاف حملتهم التثقيفية للاشتراك في السلطة, وأن ذلك تم بالاتفاق بينها وبين عبد الكريم قاسم لسد النافذة التي فتحها الحزب الشيوعي, بمطالبته بالاشتراك بالوزارة, وأن اختيارها كوزيرة لم يكن له تأثير في سياسته.

الراجح في أمر تعيين الدكتورة نزيهة الدليمي في الوزارة هو محاولة عبد الكريم قاسم كسب ود الشيوعيين, وإقناعهم بأنهم اشتركوا في الوزارة عن طريق حصول نزيهة الدليمي على وزارة البلديات, كما انه لم يكن يعدها شيوعية فاعلة ومؤثرة, وبالتالي فهي لا تؤثر في سياسته, وهذا ما أكده تقرير السفارة الأمريكية في بغداد إلى خارجيتها الذي نص على: « أن هذه التعيينات جاءت حلاً وسطاً بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي, إذ ليس فيهم من هو شيوعي معروف «.

عن مدى معرفة نزيهة الدليمي بأمر تعيينها كوزيرة, وهل كان بالاتفاق مع عبد الكريم قاسم, فالراجح انه لم يكن صحيحاً, إذ أنها تذكر في لقاء معها نشرته جريدة الشرق الأوسط في السادس والعشرين من تشرين الأول عام 2007 « اتصل بي مرافق الزعيم في ذلك الصيف القائظ من عام 1959 طالباً مني الحضور إلى وزارة الدفاع, لم أكن أملك ثمن التاكسي, لذلك ركبت الباص رقم (4) الذاهب إلى الباب المعظم, حيث تقع وزارة الدفاع, ثم نزلت وسرت مسافة طويلة تحت الشمس الحارقه, من البوابة الخارجية حتى بلغت مكتب قاسم,وأنا أتساءل عن سبب استدعائي. وبعد لقائي به قال انه بصدد استحداث وزارة جديدة للبلديات وطلب مني اقتراح هيكل لها وان أكون وزيرتها, نظرت له بدهشة وقلت أنا مواطنة بسيطة وطبيبة لا تفهم شيئاً بالوزارات, لكنه ضحك وشجعني قائلاً انه يثق بي وبقدرات النساء على المشاركة في بناء البلد».

وفي السادس عشر من تموز 1959 حضرت الدكتورة نزيهة الدليمي أول اجتماع لمجلس الوزراء, بصفتها وزيرة للبلديات ضمن التشكيلة الوزارية الجديدة.

قدمت نزيهة الدليمي خدمات كثيرة إثناء مدة تسلمها لوزارة البلديات على الرغم من قُصر تلك المدة, إذ أنها لم تدم سوى عشرة أشهر, حاولت خلالها تقديم الخدمات البلدية إلى كافة المناطق, من خلال النزول إلى ميادين العمل والإشراف المباشر على تنفيذ المشاريع, ويذكر المحامي طارق حرب إنها في آب من عام 1959 زارت منطقة الزعفرانية التي كان والده مختاراً لها ويقول: « دهشنا واستغربنا, إذ هل سيتولى وزير زيارة هذه المنطقة الشعبية وهذا الوزير امرأة... شاهدناها وكانت ترتدي النظارات بسبب الغبار الذي يسببه الشارع العام في المنطقة.تفقدت المنطقة وسألت الكبير والصغير والرجل والمرأة عن حاجة المنطقة ووعدتنا خيراً في تنفيذ مطالبنا. وبعد أيام شاهدنا المكائن التي ابتدأت بتبليط الشارع العام للمنطقة»(.

كانت نزيهة الدليمي تجوب كافة مناطق العراق, وتعقد الاجتماعات مع كل رؤساء البلديات, ففي العشرين من آب عام 1959, عقد مؤتمر مهندسي مشاريع الماء والكهرباء في الجمهورية العراقية, وكان الهدف منه وضع دراسة فنية لمشاريع الماء والكهرباء في كل لواء وقضاء وناحية, سواء من ناحية تأسيس مشاريع جديدة أو من ناحية توسيع المشاريع التي كانت قائمة, إذ أن تلك المشاريع كانت تنفذ بشكل ارتجالي وعلى أساس تقدير غير دقيق, وتنفذ بكثير من التبذير, وفي تصريح لها لجريدة اتحاد الشعب, أعلنت فيه بأنه تم تكليف المهندسين لإجراء مسح دراسي شامل لمشاريع الماء في العراق, وتوقعت أن يستغرق ذلك شهرين, وآخر لمشاريع الكهرباء يستغرق ستة أشهر, الغرض من ذلك هو معرفة الوزارة كل شيء عن حاجات البلديات في هذه الناحية ووضع خطط مستقبلية على ضوئها.

كان هم الدكتورة نزيهة الدليمي ينصب نحو تحقيق مشروع آخر ومهم هو أن يكون رؤساء البلديات وأعضاء هيئاتها منتخبين من قبل الشعب, وليس معينون من قبل الحكومة, وسعت إلى تحقيق ذلك من خلال دعوتها لعقد مؤتمر في الخامس من أيلول عام 1959, لرؤساء ومهندسي البلديات, لدراسة ميزانيتها وإدارتها ومشاريعها, كما جاءت بهيئة قانونية من أجل وضع قانون ينظم عملية انتخاب أعضاء المجالس البلدية باعتبارها مستقلة عن الحكومة, وقدمت ذلك القانون إلى الزعيم عبد الكريم قاسم ولكن الأخير رفضه ولم يسمح به , دون ذكر أسباب رفضه, أما فيما يتعلق بتوجهها لترسيخ أسس الديمقراطية في الجمهورية العراقية هو إصدارها لقرار عمم على كافة المديريات التابعة للوزارة, وعلى رؤساء البلديات, منعت بموجبه منعاً باتاً فصل عمال البلديات لمجرد أنهم أعضاء في النقابات الخاصة بهم, كما نص القرار على إعادة جميع العمال الذين فصلوا قبل ذلك للأسباب آنفة الذكر.

وفي الثالث عشر من أيار 1960, صدر المرسوم الجمهوري ذي الرقم 263 ونص على تعيين الدكتورة نزيهة الدليمي بمنصب وزيرة دولة بدلاً من وزيرة البلديات, وتعيين السيد عباس البلداوي بدلاً عنها.

عن رسالة (نزيهة الدليمي ودورها في الحركة الوطنية والسياسية العراقية 1924 - 2007).