آني إرنو : البساطة الفاتنة تكسبُ دائماً

آني إرنو : البساطة الفاتنة تكسبُ دائماً

كه يلان محمد

المتابع للأخبار الواردة عن الأسماء المرشحة للفوز بجائزة نوبل يعيشُ منذ سنوات بنفس المشاهد لمنازلات يشهدها المستطيلُ الأخير بين الفرق المُتخاصمة كما أنَّ الكرة تخالفُ التوقعات وقد تقصي من كان منافساً بالقوة على اللقب كذلك الأمرُ بالنسبة لقرارات اللجنة المانحة للجائزة الشهيرة

فمنذ سنواتٍ يتفاجأُ المتابعون بأنَّ الشخصيات الفائزة بالجائزة العتيدة ليست ضمن قائمة المشاهير على المستوى العالمي والإعلان عن انضمام بعضهم إلى نادي نوبل كان مثيراً للغرابة ومن المعلوم أن ثمةَ المبدعين قد لاتضيفُ إليهم الجائزة قيمة معنوية، ولاتزيدهم شهرة ولاتضعُ مؤلفاتهم ضمن لائحة أكثر كتب مبيعاً.

الزمن الفردي

يبدو أنَّ الأعمال الأدبية التي تدور حول الهموم الذاتية حظها أوفر بالجائزة وهذا ملاحظ في نصوص الشاعرة لويز غليك كذلك فأنَّ أعمال الروائية الفرنسية "آني أرنو" التي فازت مؤخراً بجائزة نوبل تقومُ على حلقات لاتنفصل عن حياتها الشخصية وهي بخلاف مواطنها باتريك موديانو لاتهدفُ إلى ترميم الحقبة التي عانت فيها فرنسا من وبيل الاحتلال الألماني بقدر ما تراها معكتفةً على زمنها الفردي الذي يتحركُ في إطار الحدث الكاشف للمشاعر اللامرئية يشارُ إلى أنَّ الضمير الأول هو مايُعقدُ عليه خيطُ السرد في معظم أعمال إرنو تفتحُ رواية "الحدث" على حياة فتاةٍ يافعة وهي طالبةُ في الجامعة تغامرُ بالانغماس في الحياة البارسية وتسكنها روحية متمردة وذلك ما يفهمُ من عنوان بحثها الجامعي عن المرأة في التيار السريالي .بُعدها عن البيئة الأسرية المُحافظة يخففُ عنها التقيدات كما تزيدُ رغبتها بالحياة المُستقلة من زخمِ وحيوية علاقاتها.تختارُ الكاتبةُ لغةً شفيفة ومتحررة من وطأة الزخارف والتزويق البلاغي لدرجة يُخيلُ للمتلقي بأنها مطبوخةُ من المفردات التي يتمُ تبادلها في الشوارع والأمكنة العامة وبذلك لاتنقطعُ أجواء الرواية عن قاع المجتمع.تنصرفُ البطلة نحو عالمها الخاص مراقبةً ما يحلُ بتكوينها الجسدي إثر العلاقة الجسدية مع صديقها.إلى أن تكتشفَ بأنَّ هذا التواصل الحميمي خلف أثراً في أحشائها ومن هنا تبدأُ الرحلة للتخلص من الجنين متوسلة بالمناورات للتمويه على أزمتها والكتمان على الحدث وبالتالي يكونُ البحثُ عن طريقة للإجهاض محركاً لمكونات الرواية.والاكتشاف عن الظواهر المتسترة وراء الواجهات الإجتماعية. فما تسردهُ الراويةُ لايخلوُ من الحس اليساري بعيداً عن شعارات عريضة .إذ تستشفُ من المقاطع الواردة في الرواية إستنكاراً مُبطناً للتفاوت الطبقي واللافتُ في رؤية الشخصية الرئيسة لتجربتها الصعبة أنَّ الهدف مما عاشته هو تحول الجسد والحواس والأفكار إلى مصدر للكتابة.يتوغلُ السردُ في رواية "شغف بسيط" في جغرافية الجسد وتنفردُ ثيمة رغبة عارمة بمناخ العمل إذ تيتماهي الصوت الأنثوي مع المادة المروية حيثُ لايخرجُ السردُ من حزام العلاقة العاطفية بين الراوية وعيشيقها المدعو ب"أ" فينشطرُ زمن المرأة وهي وجه آخر للذات الكاتبة بين زمنين إما أنْ تمضي أوقاتها مع الرجل الغريب أو تترقبُ مواعيد لقائه مُستعيدةً في هذه المسافة الزمنية تفاصيل المُطارحات الغرامية المحمومة وبينما تسترسلُ في نهل الصور الحسية داخل أقبية الذاكرة تفترضُ بأنَّ المخَ يتلذذ بهذا الفلاش باك وهو قد أصبح عضواً جنسياً شبيهاً بالأعضاء الأخرى.إذن تنخرطُ الراوية في صراع مع الزمن "رغبتُ في حثِ الحاضر ليعود ويكونً ماضياً مفتوحاً على السعادة" لايشقُ على المتلقي إدراك مغزى العبارة المكثفة عن الترابط الوثيق بين الإيروس والسعادة.عليه فإنَّ المفردات الإيروسية تشكلُ معجم هذا النص الروائي ولا يتفخخُ السردُ بالرغبة للتخندق ضد الرجل.ومايهمُ المرأة هو التموقع في اللحظة الإيروسية وتخدمُ الإحالات إلى اللوحات الفنية المحتفية بالجسد هذا الخط السردي طبعاً تتقاطعُ إني أرنو على هذا المستوى مع فرانسواز ساغان خصوصاُ في روايتها الموسومة ب"إبتسامة ما"

البساطة البليغة

ما يشغلُ اهتمام المبدع بالدرجة الأولى هو بناء هويته وتصميم مايكونُ مفاتيح لنصوصه.وماتراهنُ عليه إرنو في أعمالها الإبداعية ليس إلا اللغة المباشرة في السرد والتبئير الذاتي هذا ناهيك عن شغفها بفصل زمنها الخاص عن الأزمنة التي يندثرُ فيها كيان الفرد.يذكرُ أسلوب إرنو في الكتابة بمباديء الفلسفة الظاهراتية حيثُ ترصدُ في الروايتين "الحدث" و"شغف بسيط" تجليات الرغبة في حركة الجسد.ومايجدرُ بالذكر هنا أنَّ الساردة في "شغف بسيط" تحيلُ إلى مضامين رواية "الحدث" معلنةً من خلال توارد الإشارات عن هيمنة الطابع السيري على فضاء إبداعاتها الروائية كأنها لاتكتبُ شيئاً خارج الذات.أكثر من ذلك فإنَّ المعاينُ لأعمال الكاتبة الفرنسية يدركُ بأنها تميل إلى لغة مُقتصدة خالية من الحشو ولا تُثقلُ محتوى رواياتها بالمواد التي تصرفُ النظر عن الجوهر في مشروع الكتابة. لاشكَ إن الوضوح في التعبير والبساطة في الصياغة قمةُ للإبداع .تنضمُ إرنو بأسلوبها الممميز وشفافيتها في نحت النصوص الروائية إلى صف إغوتا كريستوف ومارغريت دوراس وأنطونيو سكارميتا ،إيرنان ريبيرا ليتيليير. إذ مايجمع بين هؤلاء هو التفادي من التعقيد والحشو والاهتمام بالكثافة التعبيرية والتراسل بين الرواية والفنون الأخرى .إذن العبقرية في الكتابة لاتكمنُ في الافتتان بالركض في المساحات الرحبة بل تتمثلُ في تحديد المجال الذي يتمكنُ فيه المبدع من المناروات الفاتنة