في 11 تشرين الأول 1958..حادث مثير في مكتب رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم

في 11 تشرين الأول 1958..حادث مثير في مكتب رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم

محمد سلمان منور

قبل ان تكمل الثورة شهرها الثاني اتخذ عبد الكريم قاسم قراره بابعاد عبد السلام محمد عارف عن الحكم، واضعا حدا لصراع السلطة بينهما، اذ اصدر في الحادي عشر من ايلول عام 1958، مرسوما يقضي اعفاء عبد السلام محمد عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، مبررا ذلك القرار بتذمر الضباط من ذوي الرتب الرفيعة من ان ضابطا من رتبة ادنى يحتل مركزا عسكريا رفيعا،

لا سيما قادة الفرق العسكرية في الجيش، ثم اصدر عبد الكريم قاسم مرسوما اخر في الثلاثين من الشهر نفسه، يقضي اعفاء عبد السلام محمد عارف من منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بالوكالة، وتعيينه سفيرا للعراق في (بون) عاصمة المانيا الاتحادية (الغربية سابقا)، وازاء ذلك رفض عبد السلام محمد عارف قبول المنصب الجديد، مقدما استقالة خطية الى عبد الكريم قاسم في اليوم التالي، الذي بدوره رفضها وقام بتمزيقها ويذكر انه قال: ((سأجبره على مغادرة العراق)). فأدى تمسك كليهما بموقفه الى حدوث ازمة في البلاد لولا محاولات الوساطة التي اجريت بينهما آنذاك من قبل اصدقائهما من الضباط.

قام فؤاد عارف بمحاولة للوساطة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف لايجاد مخرج لتلك الازمة، وتعد تلك المحاولة اهم واخر المحاولات التي جرت انذاك، لما ترتب عليها من نتائج مهمة ساهمت في حل تلك الازمة، ففي التاسع من تشرين الاول قام مدير الشرطة العام انذاك طاهر يحيى بزيارة فؤاد عارف في كربلاء واطلعه على تطورات الموقف في بغداد، طالبا من فؤاد عارف ان يذهب معه الى بغداد للمساهمة في حل تلك الازمة، وفي هذا السياق يذكر فؤاد عارف ان طاهر يحيى قال له: ((.. فأريدك ان تأتي معي الى بغداد، ولكي نتعاون معا لوضع حد لهذا الخلاف))، فوافق فؤاد عارف على ذلك المقترح، بعد ان وجد ان دور طاهر يحيى في هذا الخصوص كان صادقا، وانه يريد المحافظة على الثورة، كما ان فؤاد عارف كان يشاركه الموقف ذاته، وكان يخشى ان تصبح الامور اكثر سوءا. فتوجه الاثنان الى بغداد في اليوم نفسه، اذ ذهبا الى وزارة الدفاع فور وصولهما لرؤية عبد الكريم قاسم، الا انهما لم يجداه، فذهبا الى منزل عبد السلام محمد عارف، لاقناعه بقبول المنصب الجديد كي لا تتأزم الاوضاع اكثر مما هي عليه، فقال لهما بانفعال شديد: ((انا الذي فجرت الثورة.. ثم يأتي (صديق شنشل)، هو الذي يصدر امر تعييني سفيرا في بون))، وفي اليوم التالي التقى فؤاد عارف بعبد الكريم قاسم الذي طلب منه شخصيا ان يعود لاقناع عبد السلام محمد عارف مجددا بالسفر الى (بون) بقوله: ((.. ان عبد السلام لا يريد الذهاب الى بون فانت بصفتك صديقه وصديق الجميع تذهب وتنصحه بالذهاب..))، وفي صباح يوم السبت الحادي عشر من تشرين الأول عام 1958 ذهب فؤاد عارف ومعه طاهر يحيى الى عبد السلام محمد عارف مرة ثانية، واخذ فؤاد عارف ينصح عبد السلام محمد عارف بالذهاب الى بون، الا ان الاخير رفض ذلك مجددا وتذرع بأسباب عائلية وشخصية تحول دون سفره خارج العراق، كمرض زوجته وعدم اهليته لشغل منصب سياسي دبلوماسي، وإزاء تمسك عبد السلام محمد عارف بموقفه قام فؤاد عارف باقناعه بالذهاب معه الى عبد الكريم قاسم، كي يتوصلا لحل تلك الازمة، فوافق عبد السلام محمد عارف في الذهاب معه.

وحين وصل فؤاد عارف الى مبنى وزارة الدفاع بصحبة عبد السلام محمد عارف، التقى الاخير بعبد الكريم قاسم، وكان فؤاد عارف في تلك الاثناء جالسا في غرفة الحاكم العسكري العام الزعيم الركن احمد صالح العبدي، اذ كان يفضل ترك عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف لوحدهما، لاعتقاده ان الحديث بينهما سيسوده الطابع الاخوي بحكم العلاقة التي كانت تربطهما، لكن سرعان ما وجد فؤاد عارف نفسه وسط نقاش حاد بين الرجلين بعدما استدعاه عبد الكريم قاسم ليكون حاضرا معهما، فقد كان كل منهما يلقي باللائمة على الاخر بما وصلت اليه الثورة من ازمة، وازاء توتر الموقف بينهما، حاول فؤاد عارف التخفيف من حدة النقاش في بادئ الامر ولكن دون جدوى، اذ احتدم النقاش مرة اخرى بين الرجلين، الامر الذي جعل فؤاد عارف يدرك انه يقف بين قوتين لا يمكن ان تتفقا عل حل للخلاف بينهما بالسهولة التي كان يتصورها قبل لقائهما.

استمر النقاش بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف الى ما بعد الظهر دون جدوى، فاستأذن فؤاد عارف من عبد الكريم قاسم للخروج من الغرفة، بعد ان شعر بالملل من بقائه معهما، كما اعتقد بان هناك اسرارا بينهما، وقد فاجئ خروجه من الغرفة قادة الفرق والضباط الأحرار ممن كانوا في غرفة سكرتير عبد الكريم قاسم، اذ يذكر فؤاد عارف بان وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك الزعيم الركن (اللواء فيما بعد) ناجي طالب قال له مازحا: ((ابا فرهاد كملت الطبخة؟ قلت: لا والله)) ثم نادى عبد الكريم قاسم على فؤاد عارف فدخل الى غرفة عبد الكريم قاسم مرة ثانية، ويبدو ان الاخير كان يخشى البقاء بمفرده مع عبد السلام محمد عارف.

وبينما كان فؤاد عارف يدقق في احدى اللوحات المعلقة على الجدران، التفت الى عبد الكريم قاسم بعد سماعه وهو يقول: ((ماذا تريد يا عبد السلام))، فرأى الاخير جالسا على كرسي وقد اوشك ان يطلق النار من مسدسه فيما اسرع عبد الكريم قاسم للامساك بيده، فانقض فؤاد عارف عليه وانتزع المسدس من يده بصعوبة، بعد محاولة عبد السلام محمد عارف المقاومة، الا ان فؤاد عارف سيطر عليه فسقط عبد السلام محمد عارف على الارض وهو يبكي، وجراء ذلك دخل الضباط القادة ممن كانوا في الغرفة المجاورة لغرفة عبد الكريم قاسم، مستفسرين عما حدث، وكان الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد اول الداخلين ومعه بقية الضباط، اذ شاهدوا عبد السلام محمد عارف ملقى على الارض وهو يبكي، بينما كان فؤاد عارف يفرغ المسدس من اطلاقاته، وأنكر عبد السلام محمد عارف توجيه عبد الكريم قاسم له تهمة محاولة قتله، وادعى عبد السلام انه كان يريد الانتحار، غير ان عبد الكريم قاسم رفض تبريره بشده قائلا: ((كان بوسعك الانتحار في منزلك)) كما اوضح له ان تصرفه يعد جريمة يحاسب عليها.

استمرت المداولات بين القادة العسكريين بعد تلك المحادثة الى الساعة العاشرة مساء، اتفق معظمهم على ضرورة قبول عبد السلام محمد عارف منصبه الجديد في بون ولو لمدة قصيرة، ريثما تعود الاوضاع الى طبيعتها، اذ وعد عبد الكريم قاسم باستدعاء عبد السلام محمد عارف الى العراق بعد ثلاثة اسابيع، فوافق الاخير على ذلك.

عن رسالة (فؤاد عارف ودوره العسكري والسياسي).