مأزق التاريخ في مرحلة السيولة الزمنية

مأزق التاريخ في مرحلة السيولة الزمنية

د. نادية هناوي

أراد سيجمونت باومان في نظريته للحداثة أن يجعلها ذات طابع فيزياوي ومضمون مائي، مفترضا أن الميوعة من سمات مرحلتنا الحالية التي يراها مكانية تحتل حيزها في الوجود قابعة فيه من دون أن تعيقها زمانية تسير على هديها.

وإهمال باومان لفاعلية الزمن تعني إنهاء فعل التاريخ كون عملية الإذابة لا تتطلب سوى وجود بناء تحتي وفوقي ليتم تفكيكه وتحطيم قوالبه ومن ثم إعادة توزيعه مكانياً من جديد. وبهذا تكون السيولة والخفة والإذابة والصهر والتشابك والتلاحم هي الأسس الزمنية التي بها يتفكك الثابت الذي هو المكان وعندها فإن كل الثنائيات ستتلاشى.

لكن ما سبل تطبيق نظرية باومان عن سيولة الزمن أو الزمن السائل؟ والى أي المديات يمكننا النمذجة على ممكناتها الإجرائية ؟

والإجابة مهما تعددت فإنها ستظل مرهونة برؤية دوغماطية مفادها أن لا وجود لبديهيات ولا ثوابت في ظل الحداثة السائلة، فالزمن هو مجموع أزمنة والاجتماعي هو الأخلاقي والنمذجة هي اللااتباع والقالب يعني اللا قالب.

والسبب عدم ارتهان المادة بالشكل ومن ثم لن يكون لها مركز وهامش ولا أصل وتابع ولا دونية وفوقية. وقد يفضي هذا إلى مسألة أخلاقية خلافية لها صلة بعائمية التدفق في الزمن وحتمية جريانه ولا محدودية الروابط الاجتماعية والموانع والحدود الفكرية.. بما يثير القلق وربما الذعر لأن الإنسان بالفهم السائل أو بسيولة الفهم لن يعود مرتبطا بالأرض لكنه في الان نفسه غير قادر على الاستغناء عنها ومع أن الارض زائلة كما يرى باومان فهي قابلة لان تباع وتعرض في المزاد.

وهذا ما أوصله إلى القول باللايقين وذلك في كتابه ( الأزمنة السائلة) الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017 ، واللايقين عنده يعني الخوف ويشبهه باليوتوبيا الاستحالية حيث لا وجود لعالم موثوق وآمن، مشيرا إلى أن اليوتوبيا التي أطلقها بوجه عام توماس مور قاصدا بها أحلام القرن السادس عشر الميلادي ما عادت موجودة بعد أن تداعت أركانها بانهيار النظم الرتيبة القديمة السرمدية في ظاهرها.

وهكذا فأن اليوتوبيا ماض انتهى وما عاد هناك نعيم وإذا كان من جحيم فهو جحيم الحاضر الذي يعيشه الإنسان كل يوم ويسهم في إدامة تشكله مستقبلا.

وبسبب ذلك توجهت الحياة الراهنة نحو الانفتاح الذي هو عند باومان حسن وغير حسن فمن جانب هو نتاج ثمين وجرئ ومن جانب آخر هو هش وملفق، و” إذا كانت فكرة المجتمع المفتوح ترمز في أصلها إلى تقرير المصير لمجتمع حر يرعى انفتاحه فإنها في هذا الزمن تعني تجربة مفزعة لأناس يعانون من التبعية والعجز والبؤس” (الكتاب، ص31).

ويرى باومان العولمة في صورتها الحالية عملية طفيلية ومفترسة تتغذى على سلطة تمتصها من دماء الأمم /الدول ورعاياها وهي سلبية باحتوائها على دوائر الخوف والذعر الأمني وتعدد الأسواق والحرب على الإرهاب.

وتجره هذه الأفكار إلى وضع رؤية ناقمة على الرأسمالية، مدللا بما كانت روزا لوكسمبورغ قد استشرفته قبل قرن تقريبا وهي تشبيه الرأسمالية بالأفعى التي تتغذى على ذيلها..

وتستهوي باومان فكرة الأكل/ المعدة والمأكول /الذيل لينبي على هذا الاستشراف استقراء ماضويا وراهنيا معا فما نشهده اليوم من تقلص المسافة بين العولمة والرأسمالية وما شاع فيهما من الشركات متعددة الجنسيات والاندماج المعادي وبروز ظاهرة النفايات البشرية، هو تعبير عن سيولة الزمن وعدم ثباته، وعن ذلك يقول باومان:” إن إحدى التبعات الوخيمة ..للانتصار العولمي للحداثة هي الأزمة الحادة لصناعة التخلص من النفايات البشرية فكل قاعدة تغزوها الأسواق الرأسمالية ستضيف آلافا جديدة وربما ملايين إلى أعداد المحرومين من أراضيهم ومصانعهم وشبكات الأمان الجماعي” (الكتاب، ص50 ).

ويتمثل هذا الفائض البشري أو ما يسميه النفايات البشرية في فئات المهاجرين واللاجئين، مقررا بتشاؤمية أن من أصبح لاجئا فانه يصير لاجئا إلى الأبد قاطعا طرق العودة إلى جنة الوطن المفقود أو الذي لم يعد موجودا.

وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة التي يرسمها باومان لهذه الفئة البشرية؛ فإنه يؤوب عائدا الى تأكيد حالة الاستمرار من خلال تقبل بلدان الهجرة لاستيعاب المهاجرين بغية دمجهم في الجسد الاجتماعي الجديد.

وهذا ما سيشرحه باومان بشكل أكثر جلاء وبتفصيلية لا تخلو من بعض التناقض في الفصل الذي حمل عنوان ( معا ولكن فرادى) فمع تعددية الهويات والتنوع الثقافي في عصر العولمة ومع احتمال زيادة الاندماج لا نقصانه ستكون سيولة الزمن سببا في توترات ناجمة عن عدم ألفة المكان المحيرة والمربكة والتي ستستمر في تأجيج رغبات الانعزال والتمييز العنصري.

ويقارن باومان بين تاريخ ساد العالم عبر خمسة قرون من التهذيب الحضاري وبين ما صرنا نتحدث فيه عن تأخر أخلاقي وانهيار قيمي ومن ثم لم تتأصل لدينا مفاهيم الدولة والمجتمع والإنسان.

وهذا ما يعالجه زيجمونت باومان بشكل مستفيض في كتابه( الخوف السائل )، حيث الافتقار إلى الأمن واليقين لم يعد مجتمعيا بل هو شخصي أي الخوف من تحول الشخص إلى هدف وقع الاختيار عليه أو الخوف من التخلف عن ركب السائرين أو الخوف من الاستبعاد والإقصاء والخوف من العالم المليء بالمخاوف ..الخ.

ويقارن باومان بين حاضر يمثله تلفزيون الواقع، وماض يصل الى مسرحيات الأخلاق القديمة التي كانت تحقق الخلاص من المخاوف فيجد أن لا الحاضر ولا الماضي ينفعان في تخليصنا من الخوف.

أما الظن بأن المستقبل ممثلا بالتكنولوجيا والتي وضعنا آمالنا فيها سيكون بإمكانها أن تحبط أو تدمر تلك المخاوف وتمنحنا الأمان، فإن ذلك الإمكان يفنده باومان تفنيدا تاما لأن التكنولوجيا نفسها هي مصدر مضاف ورهيب للخوف.

إن باومان ــ وبسبب سيولة الزمن وعدم ثباته وما يرتبط بذلك من مشاعر مخيفة ــ لا يعيد فهم التاريخ وإنما هو ينفي وجوده ويدحض أهميته ليبدو التاريخ وكأنه في مأزق او بالاحرى مأزق الفهم اللاتاريخي حيث العالم يتألف من مجتمعات مفتوحة بالإكراه لا سبيل فيها إلى تحقيق الأمن إلا بعدم انفصالها عن بقية العالم.

ويطبق ذلك على الإرهاب والحرب عليه والإدانة الأخلاقية التي تعتمدها الإدارة الأمريكية في سياستها مع دول الخير ودول الشر، واصفا العولمة بالسرعة كنزعة تتجاوز زمنية التاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا إلى لا زمنية الخضوع الديني ولا محدودية الانتماء الهوياتي، مفترضا أن كل شيء سهل الفهم بشكل جماعي سيجعل المجموع ميالا للإنصات لأصوات تمارس الغواية والقيادة. وفات باومان أن التقدم الرقمي والتسارع في الانفوميديا هي ايضا رهانات لا يخفى ما تولده من مخاوف تضاد الاندماج والتحاور والانفتاح التي هي من سمات مرحلتنا الثقافية الراهنة.

ويعطينا باومان صورة أكثر وضوحا حين ينقلنا إلى تودوروف وحديثه عن الإغراءات في ذكريات مارجريت نويمان شاهدة العيان على الرعب الشمولي في القرن العشرين. وأن حقيقة الخوف السائلة قائمة على أساس لا زمني فبمجرد أطلاق العنان لفئة قليلة من الانتحاريين سيكون كافيا تماما لإعادة تدوير آلاف من الأبرياء وتحويلهم إلى مشتبه بهم عاديين وهذه السيولة ستغدو راهنية أيضا في سلبية العولمة حين تجمع بين السلطة والسياسة تحت سقف الأمة/ الدولة وعندها ستغدو الدولة خادمة للاقتصاد العولمي.

ولأجل تحقيق الأمن الوجودي يقترح باومان أن نبحث عن مستقبل بديل تفرغ فيه فائض الخوف الذي لا بد أن نجد له منافذ طبيعية أو بدائل مؤقتة تنفس عنه. من ذلك ما يتعلق بمظاهر حياتية يومية من قبيل اجتناب التدخين السلبي والأغذية الدهنية وإلا فان الخوف سيظل موجودا وستبدو وفرته وكأنها لا تنتهي وما الحرص على زيادتها إلا من باب إعادة بناء رأس المال السياسي المستنزف، وهكذا يكون أساس الكارثة هو اللاتاريخ .

ويضرب مثلا آخر على الخوف السائل متمثلا في ثقة المثقفين بالتاريخ وأنهم قادرون على تجسيد الكلمات وتحويلها إلى واقع من خلال وجود الطاغية المستنير الأمير الحكيم والداهية المستبد أو ما يسميه( الفاعل التاريخي ) ليقوم بالمهمة عنهم وهو ما أداه لينين عندما تولى الحزب وقاد الجماهير المعذبة المقهورة.

والنتيجة التي يخرج بها باومان هي أن النخبة المثقفة المتجاوزة للتاريخ هي من ينبغي أن تتصدى للعولمة في القرن الحالي الذي يصفه بأنه زمن الكارثة الكبرى زمن إحياء عهد جديد بين المثقفين والشعب من خلال فكرة التهجين راجيا أن يكون الاختيار بين هذين المستقبلين ما زال بأيدينا، معبرا عن ذلك الرجاء بالصيرورة التي تعني أن ما من شيء إلى حد ما له انتهاء، وأن كل شيء سيحدث في المستقبل.