سبيل للمرور في الجحيم.. قراءة في كتاب الأخلاق في عصر الحداثة السائلة

سبيل للمرور في الجحيم.. قراءة في كتاب الأخلاق في عصر الحداثة السائلة

د. عقيل عبد الحسين

ينظر زيغمونت باومان، مثله مثل عدد من مفكري ما بعد الحداثة، نظرة نقديةإلى المجتمع، والحياة البشرية، والعلاقات التي تحكمها، وتكون في جوهرها علاقات محكومة بنفوذ قوى معينة، وبسلطتها التي تحقق لها مصالح اقتصادية ومعنوية. وهو ما يجعل المفكرين أولئك، يشككون بالثابت والمستقر من الأفكار والأنظمة، وبما ينتج عنه من وضع يكون ضارا بالحياة وبحرية الأفراد في التعبير والتصرف والحركة والفعل.

ففكرة المجتمع الدامج الذي عرفته الحداثة الصلبة، وهي الحداثة التقليدية المعروفة،والمقابل للحداثة السائلة، التي يتبناها كتاب باومان: (الأخلاق في عصر الحداثة السائلة) ترجمه إلى العربية سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، وصدر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة عام 2016، فكرة موروثة من عصر شمولي سابق. وهو- أي المجتمع الدامج- يشير إلى المسعى المنظم لتحصين الحدود بين الداخل والخارج، وإقامة الفروق بينهما، ومنع أية حركة من الخارج إلى الداخل،أوالعكس.

تفسر مثل تلك التصورات تحركات الهجرة الجماعية التي نشهدها اليوم، فهي مهما كانت أسبابها محاولة مشروعة، لإيجاد مكان لحياة ممكنة بعيدا عن أي إكراه قد تمارسه أية سلطة. وتفسر ما نشهده من احتشاد على أسس اختيارية، وغير مفروضة من جهة سياسية،أومن الدولة على الأفراد، فالحشود هي من تختار انتماءها، ومن تحدد غاياتها، ومن تنطلق لتحقيقها، ولإثبات نفسها، وحقها في الوجود.

وهي في ذلك تتحرك حركة شبه حرة بين أكثر من حد فكري وعاطفي وثقافي من دون التزام تام بمرجعية حادة التميّز.إذ هي تسمح لنفسها بالتنقل بين أكثر من مرجع مستفيدة من المرونة التي ينطوي عليها المذهب والمرجعيات الدينية المتعددة، مستغلة من الجميع ما يفيدها في تحقيق غاياتها المتمثلة في التعبير عن نفسها، وإثبات قيمة وجودها، وهيبذلك تكون عابرة للأوطان بالمعنى التقليدي، عابرة بانتمائها العاطفي، وحتى في فعلها.إذ قد تتنقل بين أكثر من جبهة قتال، على سبيل المثال، لتؤدي الفعل ذاته، وتحقق النتائج التي تريدها هي، لا التي تريدها سلطة،أو دولة،أومنظومة فكرية بعينها.

لذا لن يكون غريبا تنكر الحشود التي كانت مؤيدة قبل زمن قصير لشخصية سياسية، وانقلابها عليه، ومطالبتها بمحاكمته، والانحياز إلىآخر، فليس الشخص هو من يعنيها، ولا ما يمثله من مرجعية دينية أو سياسية أو فكرية،بقدر ما تعنيها حركتها الدؤوبة المتوصلة المتسارعة من أجل الانتصار لوجودها الراهن.

وفي وضع كهذا يفقد المثقف سلطته التقليدية، مثلما فقدها السياسي، وصار ينظر إليهما نظرة احتقار واستخفاف.لقد فرغ مقعد المثقف، وصار لمن يريد من الكتبة الافتراضيين على شبكات التواصل الاجتماعي، ومروجي الكتابة الملائمة لأذواق الحشود،أن يملأه من دون أن يكون قد حاز شهادات أكاديمية،أو سوّد صفحات كثيرة منتجا كتبا مهمة تجلب له الاعتراف. مثلما فرغ مقعد السياسي وصار لأية شخصية من شخصيات الأحزاب أن تملأه من دون أن تكون صاحبة كارزما،أو تاريخ نضالي. وفي الحالتين لا يتعدى الأول، ولا الثاني،في دورهما مسايرة رغبات الحشد، والحصول على رضاه،إلى درجة نجد معها تطابقا كبيرا بين آراء المثقف والأكاديمي والسياسي وأي عنصر من عناصر الحشد، وتشابها في اتجاه الحركة، والغايات.

كانتتلك محض قراءة لكتاب (الأخلاق في عصر الحداثة السائلة) لزيغمونت باومان، وعلينا ألا نقبل بكل ما ورد فيه من آراء،أو نعتنقها، وإلا خالفنا مسلمة من مسلمات الحداثة السائلة كما يسميها باومان، وهي الحركة المستمرة بين الحدود والأفكار والمفاهيم، لتحقيق غاية، هي آنية بالضرورة.

وعليناأن ننظر إلىالتفسيرات السابقة التي وردت في الكتاب، على إنها إحدى طريقتين (يحددهما ايتالو كالفينو في كتابه مدن خفية) للهرب من عذاب الجحيم الذي نعيش فيه.أولاهما: القبول به والتحوّل إلى جزء منه. والثانية: محاولة معرفة وتعلم: ماذا، ومن، في وسط الجحيم ليس جحيما، لاتخاذه سبيلا للمرور عبر الجحيم من دون أن يستهلكنا عذابه.

ولعل الطريقة الثانية هي التي يبشر بها كتاب الحداثة السائلة، ويدعونا إلى اتباعها، مؤقتا،والى حين العثور على تفسيرات جديدة أكثر إقناعا لما شهده،ويشهده، وسيظل يشهده العالم-ما دام الوجود بتفسير مارتن هيدغر هو استعادة مستمرة للماضي- من خراب وتماد في القبح والتشويه.