كربلاء ووثبة كانون الثاني 1948

كربلاء ووثبة كانون الثاني 1948

باسم احمد الغانمي

مدينة الحسين وقبلة أنظار الوافدين، حاضرة الفداء، كان لأبنائها أن ورثوا شرف الشهادة والبطولة والشجاعة من إمام قد خص بهذه الصفات، وحملوا على أكتافهم تاريخا مشرفا ومشرقا كان امتدادا للتاريخ البطولي للإمام الحسين(عليه السلام).

على الرغم من إن التاريخ لم ينصف أبناء هذه المدينة ولا حتى بطولاتهم التي رسمت خارطة السياسة فيها، الأمر الذي يجعلها أمام الطريق الأوحد وهو كتابة ما يستحقه هؤلاء الأبطال من تاريخ يتشرف به أحفادهم من بعدهم بل ويتشرف به كل أبناء هذه المدينة وأهلها، وان هذه المدين تشرفت بأنها احتضنت خطوط السياسة العراقية في جميع أزماتها، بلى إنها كانت في أوقات مختلفة ذات الباع الأطول في ميدان السياسة.

لما رمت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1939 وقف أبناء المدينة الموقف الند والرافض لسياسة الحكومة والمتمثلة بنوري السعيد والقاضية لزج القوات العراقية في الحرب بعدها حليفة لبريطانيا، بدلا من أن يعمل نوري السعيد على إيجاد الحلول التي تخفف الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العراق على وجه الخصوص باعتباره حليف بريطانيا واجتاحت العالم على وجه العموم أبان الحرب العالمية الثانية، وقد امتازت الأزمة الاقتصادية التي طرأت على كربلاء، بأنها كانت أهون مما كانت عليه في باقي مدن العراق كون أن المدينة تمتاز بخصوبة تربتها ووفرة مياهها بالإضافة إلى زراعتها بالعديد من المحاصيل الزراعية التي ساهمت بشكل أو بآخر بتقليل الضغط عن كاهل أبناء المدي.

لما انتهت الحرب العالمية الثانية كان لابد للحكومة أن تفتح متنفسا سياسيا لأبناء العراق والعمل على إلغاء الأحكام العرفية وتوسيع حركة الصحافة وإعطاء فرصة تشكيل الأحزاب السياسية حيث أجازت الحكومة خمسة أحزاب سياسية حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني وحزب الأحرار كان لهذا القرار الأثر البالغ في نفوس سياسي المدينة الذين فتحوا فروع لهذه الأحزاب كان من أهمها فرع حزب الاستقلال الذي تمثل بـ: عبد المهدي القمبر وصبري الحر وحسن أبو طحين وصبري محمود القمبر وحسن عاشور، أما الحزب الوطني الديمقراطي فقد تمثل ب يحيى نصر الله ومحمد صالح عبود الحر والسيد جواد رضا الشروفي وعباس أبو الطوس وحسن الرميلاتي وغيرهم إضافة إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي تمثل بالعديد من الطلبة الكربلائيين أمثال جاسم القهواتي وإبراهيم عباس كرماشة ومهدي كبابي وصاحب السعدي وحسن جليل وحسن عباس، وعندما أرادت بريطانيا استبدال معاهدة عام 1930بمعاهدة جديدة يكون فيها تحقيق اوسع لمصالحها في العراق والشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خصوصا وان هناك خطراً جديداً بدأ يهدد هذه المصالح متمثلا بالاتحاد السوفيتي وأمريكا، فكان الطريق الأوحد أمام بريطانيا للحفاظ على هذه المصالح هو الالتجاء لعقد معاهدة بورتسموث أو تسمى بمعاهدة جبر- بيفن المعقودة في 15 كانون الأول 1948 .

وكَردة فعل لأبناء مدينة كربلاء ضد هذه المعاهدة التي تحاول النيل من تطلعات أبناء العراق، راح أبناء المدينة ينظمون مظاهرة عارمة اجتاحت شوارع المدينة مثلت مساندة حقيقية للمظاهرات التي عمت العراق والتنديد بقرار الحكومة القاضي بضرب أي مظاهرة أو أي إضراب مهما كانت صفته حيث إن الحكومة العراقية قد أصدرت في 19 كانون الثاني 1948 هذا القرار من اجل كبح جماح الجماهير الهائجة ضد سياسة الحكومة.

سار أبناء المدينة في هذه المظاهرة من الصحن الحسيني الشريف بعد أن ألقى فيه كل من السيد محمد هادي السعيد والسيد ضياء السعيد خطبتين ألهبا بها حماس المواطنين وقد تميزت هذه المظاهرة بالصلابة ورسوخ الأهداف التي خرجت من اجلها وبقيادتها الرصينة المتمثلة بالعديد من العناصر الوطنية أمثال عبد المهدي الحافظ ومحمد حسين أبو المحاسن وكاظم عباس كرماشة ومحمد جدوع وعبد المهدي القمبر ويحيى نصر الله وجواد الشروفي وحسن هادي الصراف وتقي المصبحي وصالح جواد الطعمة وصبري محمود القمبر وجواد أبو الحب وغيرهم ساروا بالمظاهرة متوجهين نحو دار المتصرفية في نهاية شارع العباس وقد رفعت المظاهرة لافتات مطالبة بسقوط بريطانيا والاستعمار وتطالب بإسقاط وزارة صالح جبر ومحاكمة نوري السعيد، وقد تخللت المظاهرة الأهازيج والخطب الحماسية التي كان يلقيها الطالب نزار الحسن، بالمقابل عملت الشرطة على تفريق المظاهرة والقبض على قياداتها الأمر الذي أدى إلى التصادم بين الطرفين وجرح العديد من المتظاهرين والقي القبض على محمد حسن الكليدار وضياء السعيد وتقي المصبحي حيث أحيلوا إلى المجلس العرفي في الديوانية.

وعلى الرغم من ذلك إلا إن عزيمة العراقيين لم تنثنِ وكانت اكبر من طموحات الحكومتين حيث أجبرت صالح جبر على تقديم استقالته في 27 كانون الثاني 1948 والتجأ إلى أقاربه آل جريان على شاطئ الفرات .

وكنتيجة واضحة لهذه الأعمال البطولية التي قامت بها الجماهير العراقية من جراء رفضها لما حاولت الحكومة القيام به بعقد اتفاقية لا تمثل طموحات الشعب، ومن اجل دمل الجراح العميقة التي أحدثتها هذه الجماهير في واقع العراق، راحت الحكومة تعمل على تكليف السيد محمد الصدر لتشكيل حكومته كونه يتمتع بالعديد من المؤهلات التي تساعد على تضييق الفجوة المحدثة بين الشعب والحكومة .

إن هذا الاختيار قوبل بفرح شديد من قبل الأوساط العراقية عموما ومن قبل الأوساط الكربلائية خصوصا جاء ذلك لعلاقة هذه الشخصية بالمؤسسة الدينية في كربلاء والنجف فقد كان احد طلابها والدارسين على يد علماءها، ولهذا فقد ابرق العديد من رجال الدين والشخصيات السياسية في كربلاء والنجف البرقيات التي تحمل التهاني معبرين عن عظيم فرحتهم بتسنم السيد محمد الصدر هذه المسؤولية، كما وبادلهم السيد محمد الصدر ببرقيات الشكر والعرفان ، وقد صادف بعد هذه الأحداث أن بدأت جثامين الشهداء الذين سقطوا في تلك الأحداث تصل إلى مدينة كربلاء وكان من ضمنها جنازة الشهيد جعفر الجواهري الذي سقط خلال أحداث الوثبة في بغداد، حيث أنزلت هذه الجنازة في جامع المخيم ومنه شيعت إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وفيه ألقى الشاعر محمد مهدي الجواهري قصيدته الميمية المشهورة :

أ تعلم أم أنــت لا تعلـــم

بان جراح الضحايا فم

فم ليس كالمدعي قوله

وليـس كآخر يسترحم

ثم ردد قائلا :

أخي جعفـر يا رداء الربيع

إلـى غصـــن بـــارد تسـلم

وأخت تشق عليك الجيوب

فيبرز في صدرها معصـم

وقد أثرت هذه القصيدة في جموع المشيعين فتحول التشييع إلى مظاهرة سارت باتجاه الإمام العباس (عليه السلام) ثم توجهت نحو شارع قبلة العباس ومن ثم طافت شوارع المدينة الأخرى، وقد عم الإضراب الكامل مدينة كربلاء، ثم ودعت الجنازة من قبل المشيعين الكربلائين قرب منطقة الوادي القديم حاليا سالكة طريق النجف.

م . الفرات ، العدد الثالث