العقاد.. وأبو الشهداء

العقاد.. وأبو الشهداء

زكي الميلاد

قدّم العقاد في كتابه (أبو الشهداء.. الحسين بن علي) عملًا يمكن وصفه بالرائع والبديع والبليغ، وجاء شافيًا ووافيًا في حكمته وموضوعه، امتزج فيه الأدب الرفيع بالفكر الحرّ وصفاء الضمير، ومتى ما التقت هذه العناصر وامتزجت أنتجت عادة عملًا مميّزًا كالذي تجلَّى في هذا العمل وبات يعدّ من روائع مؤلّفات العقاد.

وأظن أن مَنْ يطّلع على هذا الكتاب يتملّكه حب العقاد، ويكفي هذا الكتاب لوحده لأن يتملّك الإنسان حب العقاد، ولا أخفي أنني بهذا الكتاب تحديدًا أحببت العقاد، أحببت فيه صدق مشاعره النبيلة تجاه الحسين (عليه السلام)، المشاعر التي عبّر عنها العقاد بأدب جميل، جعلت من كتابه يحتوي على نصوص بديعة تستحق الحفظ والتدوين والتداول، وترتقي لأن تكون في مصافِّ النصوص الإنسانية الخالدة.

وفي سيرته، يذكر العقاد عند حديثه عن منهجه في التأليف كيف أن العاطفة لها صلة بأسلوب التعبير عن المعنى، فيشتدّ شعوره بها على قدر إشباعها وقوّة أدائها، وربما تحوّل القلم معه من أسلوب الانفعال إلى أسلوب السخرية والتهكّم، أو من أسلوب النقد إلى أسلوب التنديد والتفنيد، إذا ارتفعت عنده نغمة المعنى وارتفعت طبقته أثناء الأداء، فحدث له أن كتب فصولًا من كتابه (أبو الشهداء) وعيناه مغرورقتان.

ومن يتعرّف إلى هذا الكتاب يجد أنه لا غنى عنه في موضوعه، يحتاج إليه كل من يريد التعرّف إلى حركة الحسين ونهضته؛ وذلك لأدبه الرفيع من جهة، وطريقته في التحليل من جهة ثانية، وشمولية المعالجة من جهة ثالثة، وتماسك الموضوع من جهة رابعة، إلى جانب منزلة العقاد الاعتبارية فكريًّا وأدبيًّا.

ولعل العقاد قد تفرّد في منهجية البحث وطريقة المعالجة، مستندًا إلى منهج متعدّد الأبعاد، جامعًا ما بين التحليل النفسي والاجتماعي والتاريخي، مبتدئًا من التحليل النفسي، ناظرًا إلى جانب الشخصية، كاشفًا عن أن هناك مزاجين تاريخيين متقابلين يتناوبان طبائع الناس، ومتحوّلًا من ثَمَّ إلى التحليل الاجتماعي وناظرًا من جهة إلى جانب العائلة، ومن جهة أخرى ناظرًا إلى جانب الجماعة، في جانب العائلة كاشفًا عن أسباب التنافس والخصومة، وما يوجب النفرة بين فئتين تختلف من جهات الخليقة والنشأة والتفكير، وفي جانب الجماعة كاشفًا عن المقابلة والموازنة بين أعوان الفريقين.

وفي المنهج التاريخي، تتبّع العقّاد محطّات سير الحسين وحركته من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق، ومتوقّفًا عند كربلاء المكان والمعركة والمصيبة والحرم المقدّس، ومتسائلًا في نهاية المطاف: من الظافر؟ ومنهيًا العمل بخاتمة تلفت الانتباه في موضوعها وسياقها وحتى في عنوانها، فقد عنونها العقّاد بعنوان: (في علم الجمال)، ناقلًا الحديث فيه إلى عالم الأدب، متطرًقًا إلى جمالية الشعر والشعراء في رثاء الحسين (عليه السلام).

هذا عن المنهج وتطبيقاته، أمّا عن الآراء والمواقف، فعند الحديث عن جانب الشخصية وتحليله النفسي لما سمّاه المزاجين التاريخيين، يرى العقّاد أن هناك مزاجين متقابلين يتناوبان طبائع الناس، مزاج يعمل أعماله للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة، وفي ماضي الشرق وحاضره هناك كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحية والمنفعة على أكثر من غرض واحد.

ولا يحسب العقاد أنه مهتدٍ إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ، وأهدى إلى النتائج، وأبين عن خصائص المزاجين معًا، من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيين والأمويين، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، فقد بلغ كلاهما من موقفه -حسب قول العقاد- أقصى طرفيه، وأبعد غايتيه، فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق، وكراهة للنفاق، وانتصر يزيد بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء... وإلى الأفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنفس الإنسانية نصرة الحسين، وإلى الأغوار المرذولة من الخسّة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانية نصرة يزيد.

وختم العقّاد الحديث عن هذا الجانب بقوله: إن حياة الحسين صفحة، لا تماثلها صفحة في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين، وبيان ما لكل منهما من عدّة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على المدى القريب.

وعند حديثه عن جانب الشخصية من جهة تأثيرات الأسرة وتحليله النفسي والاجتماعي، يرى العقاد أنه أمام خصمين الموازنة بينهما هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين والأمويين، اللذين يختلفان في الأخلاق والأمزجة، فبنو هاشم –كما يقول العقاد- في الأغلب مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبنو أمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون ولا سيما الأُصلاء منهم في عبدشمس من الآباء والأمهات.

واستنادًا لهذا الإطار التحليلي النفسي الاجتماعي، يرى العقّاد أن تقابل الحسين بن علي ويزيد بن معاوية فيه تمثيل الأسرتين، والمزيّة الأولى التي ينبغي للحسين هي مزيّة نسبه الشريف ومكانه من محبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذه المزيّة كان الحسين في نظر العقّاد، أحب إنسان إلى قلوب المسلمين، وأجدر إنسان أن تنعطف إليه القلوب، وقد اشتهر على الجود بصفتين من أكبر الصفات الإنسانية وأليقهما ببيته وشرفه وهما الوفاء والشجاعة.

ويضيف العقّاد وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلبًا ممّن أقدم على ما أقدم عليه الحسين في يوم كربلاء، أما خصمه فيقف أمامه موقف المقابلة والمناقضة، لا موقف المقارنة والمعادلة.

وحين تحدّث عن أعوان الفريقين، ختم العقاد حديثه بما نصه: «وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو جلّاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال، وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح، وهي إذن حرب جلّادين وشهداء».

وتساءل العقاد: هل أصاب الحسين؟

وأجاب في مفتتح الحديث بقوله: إن خروج الحسين من مكة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنها حركة من أنذر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية، لا تتكرّر كل يوم، لا يقوم بها كل رجل... هي حركة لا يأتي بها إلَّا رجال خلقوا لأمثالها، فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخّاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق، هي حركة فذّة يقدم عليها رجال أفذاذ... وجملة ما يقال: إن خروج الحسين من الحجاز إلى العراق كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله، ولا يسهل عليها أن يكبتها أو يحيد عن مجراها، وإنها قد وصلت إلى نتائجها الفعّالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز الأفراد إلى الأعقاب والأجيال.

ولا خلاف عند العقّاد ولا جدال أن الحسين في حركته قد أصاب، بل وأصبح ينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعين... ويرى العقاد أن مأساة كربلاء كلها ختمت بعد أيام معدودات، ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يخمدها طالب منفعة، ولا طالب مروءة، ومضت مئات السنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام.

أما كربلاء وكيف تحوّلت صورة المكان من عالم النسيان إلى عالم الذكرى والتذكُّر، فقد صوّر العقّاد ذلك بقوله: كربلاء التي لم يكن لها ما تذكر به... وليس لها من موقعها ولا من تربتها، ولا من حوادثها ما يُغري أحدًا برؤيتها... ولعل الزمن كان خليقًا أن يعبر بها سنة بعد سنة، وعصرًا بعد عصر، دون أن يُسمع لها اسم أو يُحسَّ لها بوجود... وشاءت مصادفة من المصادفات أن يُساق إليها ركب الحسين... فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كلّه، ومن حقّه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان.

هذا عن كربلاء الأمس، أما عن كربلاء اليوم فهي حسب قول العقّاد: «حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد، لحقّ لها أن تصبح مزارًا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبًا من القداسة، وحظًّا من الفضيلة؛ لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين فيها، فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان... فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين في تلك البقعة الجرداء».

وأراد العقاد أن يختم كتابه برثاء الحسين ناعيًا له بأجمل ما قيل في حقّه شعرًا، ومن أجزل الشعراء نبلًا وحبًّا للحسين (عليه السلام) فقد تمثّلت -كما يقول العقاد- سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين وذويه تعظيمًا لهم وثناء عليهم، فلم يتّجهوا إليهم ممدوحين، وإنما اتّجهوا إليهم صورًا مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحبّ بصورة حبيبة، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.

ومن هؤلاء الشعراء الذين أشار لهم العقّاد مقتبسًا أبياتًا من شعرهم في رثاء الحسين، جاء في مقدّمتهم الكميت بن زيد الأسدي (توفي 126) واصفًا إياه بشاعر أهل البيت، ومنهم دعبل الخزاعي (148 - 246هـ) واصفًا إياه بالشاعر العجيب، ومنهم علي بن العباس بن الرومي واصفًا إياه بالشاعر الفحل.

وأشار العقاد إلى أبي العلاء المعري (363 - 449هـ) ناقلًا عنه هذه الأبيات:

وعلى الدهر من دماء الشهيـ

ـدين عليّ ونجله شاهدان

فهما في أواخر الليل فجرا

ن وفي أولياته شفقان

ثبتا في قميصه ليجيء الـ

ـحشر مستعديًا إلى الرحمن

وفي الأسطر الأخيرة من كتابه ختم العقاد بقوله: إن وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكمًا من لسان التاريخ إذا اختلف الحكمان، ولكنهما قد توافيا معًا على مقال واحد، فجلّوا لنا من سيرة الحسين صورة الجمال في عالم المثال، وكذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.