التشكيلي علي طالب يواصل مجازاته التعبيرية من ترنيمة الجسد وترسباته الحسية

التشكيلي علي طالب يواصل مجازاته التعبيرية من ترنيمة الجسد وترسباته الحسية

غسان مفاضلة

عبر تراكم سجالاته التعبيرية على سطح لوحته الموشومة بترسبات الزمن الناغل في الجسد الإنساني، وسعيه الحثيث والأثير للإمساك بما يهرب باستمرار، وأحياناً محاصرة تفاصيله واستنطاقها بذاكرة حلميّة آيلة للنسيان، يواصل التشكيلي العراقي على طالب في أعمال معرضه الجديد “شغف”، إعادة “فلترة” الماضي وتصفيته من الشوائب التي تكاد تشكّل خميرة الراهن الإنساني وعجينته.

ففي اللحظة التي تقترب بها أعمال الفنان المولود في العام 1944 في مدينة البصرة، وأحد مؤسسي جماعة المجددين في الستينيات، من واقعيتها الاقتراضية بمحمولاتها الرمزية والجمالية، لتؤكد على مجازاتها البصرية التي تستقي روافدها التعبيرية من ترنيمة الجسد، وترسباته الحسية على سطح لوحته التصويرية وفي حواراتها المكتومة.

ويعتمد طالب، الذي درس الفن في بغداد والقاهرة “فن التصميم الطباعي”، ودرّس الفنون في العراق والأردن، في أعمال معرضه على ضبط سلسلة الحوارات والتماهيات بين سطح اللوحة كمذاق تعبير، وبين تمثيلاتها البصرية من خطوط وألوان ومواد مختلفة، وكذلك على ضبط مقاييس التوازن بين الكتلة وفراغاها، كمتغيرين متلازمين يغذي كل منهما الآخر ويتتبع كشوفاته وتحويراته في إطار مجالها الحيوي.

أخذت لوحته، منذ تنويعاته الأولى على موضوع الرأس كعنصر دلالي الإيحاء رومانسي النزعة، سواء أكان منفردا أم ثنائيا “رجلا وامرأة”، أم من خلال التدمير المنهجي لتكوينه وحضوره، أخذت مسحتها وهويتها الخاصتين من خلال تراكمات تجربته الذاتية، حتى تخمرت قيمها الجمالية في خزانه البصري، من دون أن يتكئ على الاستعارات الإنشائية أو التمثيلية.

لم ينفصل الجسد الإنساني في جل مراحل الفنان، الذي يقيم ويعمل حالياً في هولندا، عن مذاقه التعبيري المنغمس مع سطح لوحته عبر الملمس والتمازج والتفارق؛ وهو الجسد الذي لا يحضر في لوحته إلاّ لتحضر معه صفاته النافذة والكاشفة على نحو تراجيدي في ثنايا سطح اللوحة وفي المركز منها.

تبدو اللوحة بالنسبة للفنان، الحاصل على الجائزة الأولى لمهرجان بغداد العالمي للفن التشكيلي العام 1986 والجائزة الأولى لبينالي الشارقة عام 1995، عن حقل الدلالات الذي لا تنفصل فيه الخامات عن المذاق التعبيري الذي يسكنها صفاتها وخواصها، إذ منها ووفق تشكلاتها تتدفق أسئلة البحث عن شرط الإنسان في الحياة، وعن معنى الحرية والاغتراب، وذلك بوصف الإنسان في علاقاته مع ذاته ومحيطه فاعلية تعبيرية مفتوحة على مناخات التأمل والتداعي والخيال.

ولا يمثل الجسد عند الفنان مكانا للمعاينة البصرية فقط، بل يتجاوزها ليصبح مكانا خاضعا للمسح والمراقبة والتمشيط كأي مساحة أخرى. فالخروقات والتآكلات والتغضنات التي تملأ سطح الجسد واللوحة على حد سواء، تجعل منه الواقع الوحيد الذي تنتظم فيه المقاومة لتحرير الرغبة من قيودها الآسرة والحالمة في آن.

يرى الناقد السوري د. أسعد عرابي أن أهم ما يميز طالب عن فناني الستينيات “البحث الوجودي الحثيث عن عبثية الزمن. يعلق الساعة في هيكل الرأس، وذلك لتمسكه بخريطة أسطورة الجسد الإنساني، وتمركزه في محور القلق والهم الوجودي”.

ويبيّن أن لوحاته تخرج من قوقعة تباريح مأساة العراق إلى وسادة حلمية طوباوية، هي لا تسترجع “ميثولوجية” أهوال سنابك هولاكو بقدر ما تحيك أساطيره الذاتية. رائياً أن ترميزاته لا تسرد أي مضمون أدبي لأنها مجازات تشكيلية بحتة، معتمدة على صوت أزيز اللون، أو إخراس أصدائه بصمت مريب، تنضح سطوحه بالتقرح وفوران الدم من الداخل، يسري مع الشريان والعصب، مع الخلية والمسام، “هكذا ينحت سطح اللوحة بالسكين السادية من دون أن يخون عقيدة الألوان المتزامنة ذات النوطة والمقام “ذي البعدين” من دون أدنى إيهام بالبعد الثالث، ما خلا بعض “الكواليس” الخلفية المظللة.

جريدة الغد الاردنية