أنا وعلي طالب وحالة البصرة

أنا وعلي طالب وحالة البصرة

سهيل سامي نادر

أشتركت مع علي طالب في حادث سعيد أو مشؤوم هو الولادة في مدينة البصرة. إنه أمر عارض بالتأكيد، لكن من يولد في البصرة ويهجرها لا يرى في العالم مدينة أخرى تستوعبه، وكلما واصل الحنين إليها يدرك أن علاقته بها غير ممكنة وأنه لن يعود بل يمثل عودات خيالية لها.

إنه نكد حقيقي، وتأكدوا مما أقول: من يخرج من البصرة لا يعود إليها لكنه يظل يحن مجنوناً برائحتها. ويبدو أن هذه الحالة متأصلة، ففي القرن الرابع الهجري كتب شاعر ما يصف أهالي البصرة كخونة لمدينتهم، فهم سرعان ما يهجرونها من دون ما عودة، على الرغم من حنينهم إليها.

في ما عدا هذا النكد لم أقصد من حالة البصرة غير اللون العاطفي، والسلوك الأخلاقي، والمتع المستذكرة التي تلهب العيون بالدموع، وهي أيضاً الشراكة بمأزق. وقد لاحظت أن الكثير من مبدعي البصرة الحقيقيين هم تعبيريون يلجمون تعبيريتهم الإنسانية بالجماليات، ويأسرون غضبهم بالتهذيب، ولا ينسون جراحهم، وكثيراً ما يحولون العمل الفني إلى تعليق وتنويع على أعمال سابقة، معاودين من دون رغبة في بناء مآثر كبيرة بقدر ما هم مشغولون بتوضيح أنفسهم بإلحاح يثير التساؤل. كيف نفهم هذا؟ لا أدري، ولكن ما المشكلة؟ أبداً! لتكن حالة البصرة إذن وصفاً للقاءات غريبة، مدينة أحلام أو مدينة نكد أو حالة معاودين ممسوسين.

في عام 1995 باشرت الكتابة عن علي طالب مستشاطاً بكتابة نقدية لشاكر حسن عن أعماله. بدا لي هذا الرد ممكناً، لكنه فقير جداً، ولا يقول شيئاً مهماً عن العمل الفني. ومن الواضح أن شاكر كان قد حوّل النص البصري إلى نص لغوي وأعاد توجيهه إلى الشبكة السيكولوجية التي تنتجها العيادة النفسية. لا شك أن في أعمال علي طالب طاقة أدبية عالية تشتبك باللغة وتتأكد حقيقتها الرمزية بالمعاودات والتكرار. لكننا إزاء نصوص بصرية تغير دلالاتها ووظائفها التعبيرية في فترات زمنية تطول وتقصر، من هنا لابد من متابعة تحولاتها بدقة عبر الزمن.

توجد عند علي طالب مجموعة من السير الفنية للأشكال غير متساوية في الرتبة، وتدخل في علاقات فنية متجددة. ولست أظن أن عقدة الأب تستطيع أن تفسر فن الابن بكامله، فضلاً عن أن الابن ليس غراً حتى يخلع مشكلته في نظام واحد. إنه يدفع بها إلى الخارج فتتحول، ولا تعود هي، وقد تضحي ذكرى وجرحاً مستذكراً.

قبل هذا وذاك يجب ألا نتوقع من العمل الفني أن يضحي مسرحاً لعقدة نفسية أو عيادة شفاء الى ما لانهاية، فمن دون أن تتدخل عناصر أخرى، فإن العمل الفني مفتوح لاستقبال التحولات الرمزية بوصفها تحولات ثقافية. إن آخرين غامضين، وصريحين، سيسهمون فيه. إن النص البصري ماكر، ونقله من موقعه التعبيري البصري إلى النظام اللغوي بعنت وعدم انتباه يعني تبديده.

في بيت علي طالب بإربد كنت قد شاهدت رؤوساً عديدة شكلت مع رؤوس أخرى قديمة سيرة ذاتية. وكان هناك رأس أخضر وآخر أزرق. فأية اقتراحات متوفرة ها هنا؟ مضحك أن نزعم وجود عقدة خضراء وأخرى زرقاء. ليس الرأس / الأب سوى لعبة لغوية استبدالية في أفق سيكولوجي، في حين أننا جميعا أصحاب رؤوس، وإمكانية أن نشكو منها، لأسباب ثقافية وسياسية متوفرة تماماً. إزاء ذلك كان هناك رأس منحوت رسم عليه طائر: علاقة غريبة بين الوقار التعبيري الغامض للرأس وهذا الطائر الملون. ثمة تحطيم لاقتراحات سابقة، فلدينا ها هنا اقتراحات أخرى. والمراجع اللغوية تساعدنا في التفكير، نظرا لأنها الإمكانية الوحيدة، فالنظام اللغوي هو الذي يشرح أنظمة التعبير الأخرى، ولكن ليس عليه أن يسقط مفهوماً قبل أن يصف السلسلة التعبيرية كلها، فإذا ما وقف حائراً، فعليه أن يظل أميناً حائراً، فالحيرة أكثر فائدة من استنتاج مفهومي متسرع.

رحتُ أعدّ مقالتي عن علي طالب وأنا مستثار إذن، ثم رأيتني أغيّر موقعي منها حتى بدت غير ممكنة. في الحقيقة أنني اكتشفت – وهذا اعتراف مني – أن النقد الفني عمل صعب ويحتمل الزيف والسخف.

بعد عام واحد غيرت خططي فانزلقت تماماً من لحظات حياتي أنا نفسي، مما رأيته وسمعته في إربد، ومما احتفظت به من ذكرى، ومما أعرفه عن نفسي كبصري يلتقي ببصري، وكتبت عن (حالة البصرة) كمنطقة لقاء جمالية متوترة، وحالة شؤم، واستذكار عذب. كان عليّ أن أكتب عن علي طالب من خلالي. لا أوهام في ذلك، فأنا من يتحدث وليس علي طالب، وعلي أن لا أخفي هذه الحقيقة البسيطة.

حسن. المرء ينزلق من حكاية سهلة، وليس أفضل من الانزلاق من لحظة لا تريد فيها أن تقبض على الآخرين متلبسين كمرضى أو عباقرة. توجد في الحقيقة إمكانية جربتها وهي أن يبدأ النقد بتحليل سيكولوجي محايث للناقد نفسه وهو يكتب بشرط ألا يخشى ضعفه، ولا يخشى المرح، مراهناً على القليل من الحظ. كتبت صفحات عديدة من دون ترقيم، تحت عنوان (أنا وعلي طالب وحالة البصرة) الذي كتبته بحروف كبيرة تأكيداً مني على أنني لم أكتب نقداً ولا أريد، بل أكتب كتابة ولنقل أكتب ما أحب.

كتبت من دون أن أفكر بالنشر، ولعلي فكرت على هذا النحو: هذا لي. لكن حقيقة: ما إمكانية أن تنشر كتابة عن علي طالب في تلك الأيام وعلي طالب غادر العراق.. كتابة عن حالة البصرة، والأشياء المشتركة، والعواطف والتحليل النفسي؟. لا أدري حتى اللحظة أين وضعت تلك الأوراق، في أي كتاب أو زاوية؟ أضعتها إذنً. بحثت عنها من دون جدوى. وفي العادة كلما أبحث عن شيء ضائع يزداد ضياعاً. وأزداد يأساً. وفي مثل هذه الحالة أطمئن نفسي: إنها هناك، في مكان ما وسوف تظهر من نفسها!

في عام /1998/ زرت الأردن واكتشفت أن علي طالب صنع معركة تليق به. ببساطة شديدة وجد الحجة القوية التي كان يعد نفسه لها لكي يغلق الباب خلفه بقوة ويقول: هراء!

بمغادرته أربد والتدريس راح علي طالب يعدّ العدة لمغادرة المنطقة العربية كلها. تحدثنا عن هذه الإمكانية، وأرادني أن أغادر معه، إلا أنني كنت أكثر يأساً منه ومن دون رغبة في الشفاء. كنت بصريا وتشيخوفياً بعض الشيء، بمعنى أن بإمكان اليأس نفسه أن يضحي قراراً عندي، وبإمكاني أن أسميه أي شيء، أملاً على سبيل المثال، ما دمت أستطيع أن أبدو شريكاً لليائسين وعاطلي الإرادة، هاتفا كمحارب: إلى أمام!

في بغداد علمت أن علي طالب غادر الأردن إلى هولندا وفكرت: سوف لن أراه أبداً!

لكن العالم صغير ودائري وصدفوي، ففي (3/9/2002) غادرت إلى الأردن وعرفت أنه هناك يعالج قضايا عائلية مضجرة ومتعبة. أضحى مدرباً على الوحدة ويمتلك زمام تفكيره من دون مرجحة لا طائل منها. كانت الحرب تدمدم من بعيد، آتية وغير آتية، وكنا يائسين من إمكانية أن تأتي ولا تأتي، من المكوث والهرب من الدكتاتورية والحرية. ماذا كنا نريد حقاً؟ بالأحرى ماذا كنا نستطيع أن نفعل نحن غير المستشارين في أي شيء منذ عهود ما قبل التاريخ؟

وسافر من جديد، وأرسل من هناك عملاً فنياً من أعماله إلى مركز الأندى للثقافة والفنون لكي يعرض بمناسبة افتتاح بنايته الجديدة في اللويبدة، وكنت زائراً شبه يومي لهذا المركز الذي كتبت له نصاً في هذه المناسبة. كان العمل جديداً من حيث التقنية والتعبير، فضلاً عن أنه تجريدي، لكن علامات الفنان المميزة القديمة متوفرة فيه.

في أعماله التجريدية يبني علي طالب نسيجاً آسرا يبدو لوحده حالة عاطفية تأملية كاملة، نسيج مشغول بملامس متنوعة لها ضوء داخلي شحيح، وتوحي بأمكنة غامضة. هناك في القلب نجد لقية كأنها قلب نابض، جوهرة ضائعة، شيء مضيء في عتمة، ماسة في درب معتم.

راسلته عن طريق البريد الألكتروني، فأرسل لي صورة من عمل يستعيد فيه روحية أعماله القديمة، وببساطة شديدة وجدتني أنزلق في كتابة رسالة أتحدث فيها عن انطباعاتي عن هذين العملين، وأوضّح نفسي على طريقة (حالة البصرة). وعلى نحو ما أردت التعويض عن فقداني لتلك المقالة كما احتفظت بمسودتها التي عبرت معي الحدود في طريق العودة. عام كامل مضى على هذه الحوادث، والحرب التي قطعت الوصل أعادته من جديد.

مقتطف من مقالة نشرت في كتابي “الخشن والناعم” مع بعض التغييرات.