الرسام علي طالب.. محنة الإنسان.. وشيئية اللوحة

الرسام علي طالب.. محنة الإنسان.. وشيئية اللوحة

خالد خضير الصالحي

في ما مضى من السنوات كانت ثمة عناصر محددة في تجربة الرسام الستيني علي طالب تجثم على متلقي تجربته؛ فتعمل كموجه قرائي، ولم يكن هنالك من خلاص لهؤلاء المتلقين إلا أن يتناولوا تجربة علي طالب مرورا بالثيمة المهيمنة على تجربته وهي الرأس المقطوع الذي كان يبدو (بلقطة جانبيّة)، والذي يشكل الهيكل البنائي في أعماله،

والذي أتخذه الرسام مرتكزا في متحفه الشخصي؛ فقرابة ربع قرن, كان يلف هذا الرأسَ لغزٌ مثيرٌ يبقيه محفوفا بأسراره، وأحزانه، وخوالجه، ومآسيه، كان ذلك الرأس يبدو شخصيةً ذاهلةً تظهر والظلام يلفها من كل زاوية, لكنها رغم ذلك، تؤكّد وجودها برد فعل ليس أقله عدم الاكتراث الذي تبديه تجاه الآخر(=المتلقي)؛ مما يجعلنا نلتمس لها عذرا؛ فهي تبدو عمياء لا قدرة لعينيها على الأبصار، أو لا وجود لعينيها، إنها إذن ليست بمواصفات (لعبة الرأس المقطوع) التي كنا نشاهدها في طفولتنا، إنها لعبة تجري بطريقة أخرى، لعبة قاسية ومحزنة بقدر كبير وموجع، من الصعب الحديث عنه لغةً؛ فلن يتبقى من تجربة تلقـّي لوحة علي طالب سوى رائحة الموت الذي يعشش في ثنايا أعماله؛ فهو الممثل الأهم في مسرح الحدث... ومثلما كان جايكومتي يعتقد “ أن الوجه الإنساني غابة لم تكتشف بعد” فأن علي طالب يبدو مؤمنا بذلك تماما، وهو الذي انفق أكثر من ربع قرن يستقرئ الوجه الإنساني ويوظفه، بل ويختزل الواقع، ومحنة الإنسان فيه، بكل تعقيداتها إلى علامة واحدة هي ذلك الوجه، ساحة لتجاربه التقنية اللونية (ونحن نعني تحديدا سلسلة من الوجوه التي رسمها لرؤوس آدمية عام 1999)، فحين يعكف على سطح اللوحة ينقطع إليه تماما كما ينقطع النساك في صوامعهم المنعزلة، أو ربما كما ينقطع الوراقون على صفحاتهم يزوقونها، فيضع خطوطه، وعلاماته ومستحثاته الشبيهة بالكلف والندب التي غزت وجها مجدوراً، وقد يتخلى عن ذلك حينا، متجها بألوانه صوب أحاديّة اللّون، لكن لوحته، رغم أحادية اللون، تظلّ موّارة بغموض واضطراب لوني هائل.

مقاربات شتى

يحار المرء وفق أي مقترب يتناول أعمال (على طالب)، فقد اقترح الناقد عدنان حسين أحمد، وأمام ثراء تجربة كهذه، ثلاثة مقاربات معاً، فيقول في (موقع كتابات): “لا يمكن دراسة التجربة الفنية لعلي طالب، أو التوقف عند معرض من معارضه الشخصية، أو حتى دراسة أي لوحة من لوحاته على انفراد ما لم يستعن الناقد بأدوات نقدية تكشف عن ثلاثة جوانب في آن معاً، وهذه الجوانب هي: الجانب الجمالي، والجانب الفلسفي، والجانب النفسيّ. فلوحة علي طالب لا تتعامل مع موضوعة عابرة، ولا تتناول ثيمة ما عفو الخاطر، فجل موضوعاته هي موضوعات كونية...»

نحن، من جانبنا، كنا نعتبر العناصر التي تقود تجربة علي طالب: أساطير شديدة الفردانية من جانب، و تفعيلاً للطابع الشيئي للوحة من الجانب الآخر، ان هذا الرسام واحد من أهم رسامي جيل الستينيات وجماعة المجددين، ومن الذين طرحوا فهماً مغايراً للخط المقدس الذي هيمن على منطلقات ومنجز جيل (ما قبل الستينيات) في العراق، وهو (التعبير عن الروح المحلية) في مقابل الفهم الستيني الثوري الجديد الذي يتمثل: بالنظر إلى اللوحة باعتبارها سطحاً مسكوناً بالمادة، واعتبار الرسم “فناً يكتشف “ذاته في السطح التصويري” كما يقول شاكر حسين آل سعيد (آل سعيد، شاكر حسين، البحث في جوهرة التفاني، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2003، ط1،ص205)، فقد ولد علي طالب في البصرة عام 1944, وتخرّج في أكاديميّة الفنون الجميلة ببغداد في السّتينيّات, وعندما أنهى دراسته عاد إلى البصرة مدينته ليعيد فيها حساباته وليعود إلى دراسة الفنّ في القاهرة، وفي منتصف السّبعينيّات كان قد امتلك وعيا كافيا أهـّله للبحث عن أساليب تعبيرية جديدة تتلاءم و تلك المرحلة، فقام ومجموعة من الشباب وقتذاك بتأسيس (جماعة المجددين) الذين أقاموا معرضهم الأوّل في بغداد عام، 1965 ثم في السنة التالية في بغداد 1966، وهم مازالوا طلابا؛ فكانت الأسباب لتشكيل تلك الجماعة هي التخلي عن الخطاب الأيديولوجي لجماعة بغداد للفن الحديث وقيمه غير الجمالية، وتثوير مواد اللوحة التقليدية التي انكب عليها الرعيل الأول من الفنانين.

شيئية فعل الرسم

بدت لوحات علي طالب تجارب تؤكد أن اللوحة حقل لا يمكن فيه فصل الخامات عن الألوان مطلقاً، وأنهما معاً لا يمكن أن ينفصلا عن الوجود الشيئي للوحة، وبذلك تكون اللوحة حقل وجود لعناصرها؛ فبدت لوحته مركباً عصّياً، تشكّله أجواء شبه أسطورية من شخوص طوطمية تنتصب وسط ظلام السطح الذي هو ناتج عمل تقني عال في معالجة المادة واللون، بسطوح متآكلة تلفها الظلمة التي تذكرنا بظلمة لوحات رمبراندرت وكارافاجيو، فقد (كان علي طالب) ومازال، منغمسا في معالجة الموضوعات الوجودية، والأسئلة الكبرى حول الطبيعة البشرية، وطبيعة الحياة والموت والزمن.. ويبدو أثر المنفى على أعماله الجديدة جلياً، متمثلاً في البحث عن الأرض الأولى حيث يزاوج بين الرحم والمكان الأول (الذاكرة).. (كما جاء في موقع فنون)، ومن ظلمة داكنة تنبثق زهرة حمراء تشكل خارطة (قوس محمول) ينمّ عن ممارسة طقسية سرية غامضة وأجواء لونية شحيحة. لقد كتبت مرة، وأنا أتحدث عن الرسام المقيم في لندن هاني مظهر، بأنه كان يعمد إلى إجراء انقطاعات في أشكاله فيقطعها إرباً باستخدام اللون الأبيض، بينما يفعل علي طالب الأمر ذاته ولكن من خلال اللون الأسود (الذي يمحو الأشكال فيخلق الانقطاع). كتب محيي المسعودي يقول “في كل عمل ثمة الإنسان وقضيته وصراع... لقد شح الضوء كثيراً، فانسحبت الألوان المضيئة تاركة أثراً دارساً يغري الناظر بفقدانها ويعبر عن فجيعة الإنسان الغائب شكلاً والحاضر فعلاً وأثراً في معظم الأعمال... لقد عّم الظلام وتسللت العتمة والقدم والإهمال، وهي إشارات تؤكد رؤية الفنان الراسخة بأفول الحياة... وهزيمتها لصالح الموت أو الفناء أو الدمار”، فكان علي طالب، من ناحية التقنية اللونية يعمد في تنفيذ أعماله، على تعدد الطبقات اللونية المتراكمة ومن ثم الحفر في هذه الطبقات لإحداث (أثر) واضح في سطح اللوحة، إلا أن الإيغال في مقارنة لوحتي علي طالب بهاني مظهر تكشف عن فروق جوهرية هي أن لوحة علي طالب ليست إلا موتيفا صغيراً يشكل بلورة تجمعت حولها سحب الظلام متراكمة، بينما كانت لوحة هاني مظهر كرنفالاً من الأشكال المشخصة والمجردة وان كانت كلا اللوحتين تتأرجحان بحركة بندولية بين التشخيص وبين التجريد بإصرار ثابت. يتخذ علي طالب الجدران نسقاً يقايس عليه تجربته، فتكون تلك الجدران جسداً ممتلئاً بالحركة في سكونه ونابضاً بالوجود كواقعة شيئية بماديتها أولاً وبتقنياتها المختلفة، مكرساً المبدأين اللذين رفعهما آل سعيد إلى مقام الاستراتيج وهما: التعرية والتراكم، فيكون الجدار ميداناً لتجارب الرسام باتجاه إخضاع عناصر اللوحة (المادة واللون) لتجاربه الامبريقية إضافةً أو حذفاً..

العنوان مفتاحا من خارج البَصَري

تتنازع الفنان شتى النوازع، بشأن مسألة المتلقي الافتراضي الذي تتوجه اللوحة إليه، هل يتمكن هذا من حل شفرة العمل أم لا؟، وكيفما كانت النتيجة فأن الذي سينتصر في نهاية الأمر، بناء العمل كما أراده الفنان الذي لا يدير ظهره للمتلقي، بل يلقي إليه، قبل أن يتركه وحيدا أمام ذلك العمل، يلقي إليه بمفتاح نثري وحيد من طبيعة (خارج بصرية)، انه عنوان اللوحة، عله يساعد في إخراج ذلك المتلقي من ظلمات المعنى إلى نور الإحساس به، والفنان في ذلك يفترض متلقيا من نمط مختلف، لأنه يترك، بعمله ذاك، من الأسئلة أضعاف ما يترك من الإجابات!!.

علي طالب رساما (بصريا)

هل يصح، بعد كل هذا، اعتبار علي طالب رساما (بَصَريا)؟ أي أن يكون مجردا من كل معنى غير بصري (نثري = أدبي أو رمزي)؟

قد يعجَب الكثيرون منا إن نحن، بعد كل الذي قلناه، نعتبره كذلك، بل سنعتبره كذلك!؛ فنحن نعتقد انه رغم حرصه على أن تُـمثل اللوحة (شيئا) أي شبها بأشكال الواقع، إلا أنه مثل ماكس آرنست مثلا، يبقى وفيا، ومخلصا لشيئية سطح اللوحة؛ فهو يضع للوحة حدودا بشكل وجه إنساني جانبي! ـ أما ما خلا ذلك فليس نسيجا من قماشة، أو أية مادة أخرى، وضع الفنان الصبغ عليه، وسيخوض فيه غمار تجربة تقنية مع المواد المستخدمة، ليصير ذلك الوجه نسيجا ثرا، سواء بسحنته اللونية أو ملمسه، وهو لا يشابه إلا نفسه، مهما أوحى لنا بشبه لأشكال أخرى في الواقع، ومهما بحث المتلقي عن معان خارجية فلن يجدها، وعليه أن يبحث عن معانيه داخل اللوحة، لا خارجها!، تماما مثلما انشغل الفنان بسطح اللوحة حين أنجزها بانقطاع يشي بافتتان بالنسيج والمواد الغريبة التي يشتغلها بيديه (أي يصنّعها يدويا) فقد كان يضع على لوحته كل ما يعن عليه، ويعتقده يصلح أن يوحي بفضاضة ما يحيط بنا.

*****

يحار المرء وفق أي مقترب يتناول أعمال الرسام العراقي من جيل الستينيات (على طالب)، تلك التي عرضها في قاعة الاورفلي 2006، ضمن معرض (حب وموت) فقد اقترح الناقد عدنان حسين أحمد، أمام ثراء تجربة كهذه، ثلاثة مقتربات معاً، فيقول:

(لا يمكن دراسة التجربة الفنية لعلي طالب، أو التوقف عند معرض من معارضه الشخصية، أو حتى دراسة أي لوحة من لوحاته على انفراد ما لم يستعن الناقد بأدوات نقدية تكشف عن ثلاثة جوانب في آن معاً، وهذه الجوانب هي: الجانب الجمالي، والجانب الفلسفي، والجانب النفسيّ. فلوحة علي طالب لا تتعامل مع موضوعة عابرة، ولا تتناول ثيمة ما عفو الخاطر، فجل موضوعاته هي موضوعات كونية…) (موقع كتابات).

لقد وجدنا، من جانبنا، أن العناصر التي تقود تجربة علي طالب كانت: أساطير شديدة الفردانية من جانب، وتفعيلاً للطابع الشيئي للوحة من الجانب الآخر، فهذا الرسام كان واحداً من أهم رسامي جيل جماعة المجددين وجماعات أخرى، من الذين طرحوا فهماً مغايراً للخط المقدس الذي هيمن على منطلقات ومنجز جيل ما قبل الستينيات في العراق، وهو (التعبير عن الروح المحلية) في مقابل الفهم الستيني الثوري الجديد الذي يتمثل: بالنظر إلى اللوحة باعتبارها سطحاً مسكوناً بالمادة، واعتبار الرسم (فناً يكتشف “ذاته” في السطح التصويري) كما يقول شاكر حسين آل سعيد (آل سعيد، شاكر حسين، البحث في جوهرة التفاني، دائرة الثقافة والاعلام، الشارقة، 2003، ط1،ص205) وكان آل سعيد نفسه واحداً من أهم الفنانين الذين انسلخوا عن جيلهم والتحقوا بركب الستينيين.

بدت لوحات علي طالب تجارب تؤكد ان اللوحة حقل لا يمكن فيه فصل الخامات عن الألوان مطلقاً، وأنهما معاً لا يمكن ان ينفصلا عن الوجود الشيئي من خلال تصنيف آل سعيد للألوان والمواد في اللوحة في “انتمائها إلى الهواء (اللون المنفوث)، والماء (اللون السائل)، والأرض (اللون ذو الكثافة)، والنار (اللون الذي يوحي للمشاهد بأنه تكون في حالة حرق المادة)…” وبذلك تكون اللوحة حقل وجود بعناصره الأولى، فبدت لوحته مركباً عصّياً على الاختراق، تشكّله أجواء شبه أسطورية من شخوص طوطمية تنتصب وسط ظلام السطح الذي هو ناتج عمل تقني عال في معالجة المادة واللون، ومن سطوح متآكلة تلفها الظلمة التي تذكرنا بظلمة لوحات رمبرانرت وكارافاجيو فقد (كان علي طالب) ومازال، منغسماً في معالجة الموضوعات الوجودية والأسئلة الكبرى حول الطبيعة البشرية وطبيعة الحياة والموت والزمن.. ويبدو أثر المنفى على أعماله الجديدة جلياً، متمثلاً في البحث عن الأرض الأولى حيث يزاوج بين الرحم والمكان الأول (الذاكرة).. (كما جاء في موقع فنون) ظلمة داكنة تنبثق منها زهرة حمراء تشكل خارطة (قوس محمول) ينمّ عن ممارسة طقسية سرية غامضة وأجواء لونية شحيحة. كتبت مرة، وأنا أتحدث عن الرسام العراقي المقيم في لندن هاني مظهر، بانه كان يعمد إلى إجراء انقطاعات في أشكاله فيقطعها إرباً، ويفعل علي طالب الأمر ذاته ولكن من خلال اللون الأسود (الذي يمحو الأشكال فيخلق الانقطاع). كتب محيي المسعودي يقول (في كل عمل ثمة الإنسان وقضيته وصراع… لقد شح الضوء كثيراً، فانسحبت الألوان المضيئة تاركة أثراً دارساً يغري الناظر بفقدانها ويعبر عن فجيعة الإنسان الغائب شكلاً والحاضر فعلاً وأثراً في معظم الأعمال… لقد عّم الظلام وتسللت العتمة والقدم والإهمال، وهي إشارات تؤكد رؤية الفنان الراسخة بأفول الحياة… وهزيمتها لصالح الموت أو الفناء او الدمار)، فكان علي طالب، ناحية التقنية اللونية (يعمد في تنفيذ أعماله، على تعدد الطبقات اللونية المتراكمة ومن ثم الحفر في هذه الطبقات لإحداث (أثر) واضح في سطح اللوحة، ان الإيغال في مقارنة لوحتي علي طالب بهاني تظهر تكشف عن فروق جوهرية هي أن لوحة علي طالب ليست إلا موتيفا صغيراً يشكل بلورة تجمعت حولها سحب الظلام متراكمة، بينما كانت لوحة هاني مظهر كرنفالاً من الاشكال المشخصة والمجردة وان كانت كلا اللوحتين تتأرجحان بحركة بندولية بين التشخيص وبين التجريد بإصرار ثابت. يتخذ علي طالب الجدران نسقاً يقايس عليه تجربته، فتكون تلك الجدران جسداً ممتلئاً بالحركة في سكونه ونابضاً بالوجود كواقعة شيئية بماديتها أولاً وبتقنياتها الأربع التي فصل آل سعيد الحديث عنها، مكرساً المبدأين اللذين رفعهما آل سعيد إلى مقام الاستراتيج وهما: الشعرية والتراكم، فيكون الجدار ميداناً لتجارب الرسام باتجاه إخضاع عناصر اللوحة (المادة واللون) لتجاربه الامبريقية إضافة أو حذفاً..