دنيس ديدرو.. الحواس في مواجهة الفلسفات العقلية

دنيس ديدرو.. الحواس في مواجهة الفلسفات العقلية

محمود عبدالله تهامي

ناقش الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو مذهبه التجريبي والفكري من خلال كتابه “خطاب العميان” الذي يقدم من خلاله صورة مقربة لتحصيل العلوم والفكر عن طريق الحواس، طارحا شكوكه الكبيرة في تلك القضايا المثالية والكبرى التي ورثها العقل البشري من تراث للحضارات القديمة.

ديدرو، استغل تلك القصة التي يرويها في كتابه ليبرز منهجه وأفكاره بصورة بسيطة وواضحة، فهو يفترض أنه قام بزيارة لفلاح قروي ضرير، يعتمد على تواصله مع الحياة من خلال حواسة وخاصة حاسة اللمس.

وانشغل ديدرو دائما بعدة مواجهات فكرية خاضها، وتتضح اهتماماته وقضاياه تلك من عناوين كتبه، فقضية اعتماد الحواس بديلا عن الفلسفة العقلية تظهر من “خطاب العميان” وكتاب “رسائل عن الصم والبكم”، وهي تشير بصورة كبيرة لتقوية وتغذية بعض الحواس على حساب أخرى مفقودة، كتقوية اللمس والشم والسمع لفقد حاسة البصر، وقضية الدين والهجوم على الميتافيزيقية يظهر من خلال كتاب باسم “جولة المتشكك” وكتاب “الراهبة”، وكتاب “تأويل الطبيعة».

يمكن للإنسان- وفق تصورات ديدرو- أن يطرح معتقداته القديمة وأفكاره العقلانية التي ورثها من الفلسفات القديمة والتي تستند بصورة كبيرة على التأملات دون أن يستندوا إلى طبيعة الحواس في تحصيل المعارف، كانت هذه الأفكار تمثل لأصحابها وجهة نظر، ومن هنا هاجمهم ديدرو من خلال كتابه معتبرا أن ما حصلوه من النظر كان هراء ولا يستحق التمسك به في حين ما حصلته الحواس كان طيبا وجيدا على أحسن الأحوال، واقتضت تلك القضية أن تقوده لنقد القضايا الدينية المسيحية فتعرض لهجوم كبير ومحاكمة وسجن من وراء أفكاره الرافضة للميتافيزيقية.

لقد انتهى ذلك الفلاح الضرير بطل “خطاب العميان” إلى مفاهيم خاصة عن الجمال، والدين، والامتلاك، والعفة، اعتمادا على عمل الحواس، وليس خبرات العقل، فباتت الاستنارة العقلية هدفا لمذهب ديدرو التجريبي، فلا تزال مشاهداته الحسية قاعدة نهائية لأفكاره، ولا يسلّم بالفرضيات العقلية الموروثة الراسخة منذ الحضارة اليونانية.

ويعتبر الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو من ضمن أهم علماء حركة التنوير في أوروبا، عرف بكونه كاتبا موسوعيا وفيلسوفا كبيرا، فقد كتب النقد والمسرح والقصة والمقالة الفنية، كما أشرف على إصدار “موسوعة الفنون والعلوم والحرف”، كان من أتباع المذهب التجريبي يسلّم بالوقائع العلميّة ويرفض المذاهب الميتافيزيقيّة، وقد جعله ذلك يتعرض للعقيدة المسيحية بالنقد، وناله من وراء ذلك هجوم شديد من الكنائس.