حسب الله يحيى: جئت إلى المسرح من صفحات الأدب

حسب الله يحيى: جئت إلى المسرح من صفحات الأدب

حاوره: علاء المفرجي

ولد القاص والناقد حسب الله يحيى في مدينة الموصل عام 1944. عمل في التعليم لعدة سنوات في القرى الكردية. مارس العديد من المهن وأكتسب خبرة مهنية واجتماعية واسعة. أصدر المجاميع القصصية الآتية:
الغضب، القيد حول عنق، الزهرة، ضمير الماء، الحطب، النهار يدق الأبواب (قصص ومسرحيات)، هي... أمرأة عراقية، الأشواق، كتمان، أنفاس، كوميديا الكاتب في الزمن الكاذب، حدائق عارية، أغتيال الحنين (رواية)، أجنحة حجرية، هواجس، إرهاب، حكايات من بلاد ما بين النارين ـ قصص ومسرحيات ـ

دار. وكتب في المسرح تأليفاً ونقداً: أصابع القرنفل، قصص للأطفال، دفاع عن الفرح، الفراشات، سمكة تعرف كل شيء.
وفي مجال الدراسات ألّف: مقدمة في مسرح الأطفال، فنارات في القصة والرواية، المسرح العراقي – قضايا ومواقف، ثقافة الإرهاب والعولمة، شخصية الدكتاتور في المسرح العالمي.
وقام بتدريس النقد المسرحي وتاريخ المسرح في معهد الفنون الجميلة – بغداد لعدة سنوات وساهم في ندوات ومؤتمرات ومهرجانات مسرحية عراقية وعربية عديدة وترأس قسم المسرح في مجلة (فنون) وهيئة تحرير مجلة (السينما والمسرح).
أعد وقدّم عددأ من البرامج الثقافية والمسرحية – إذاعية وتلفزيونية لعدة سنوات من تلفزيون بغداد، والتلفزيون الثقافي – بغداد.
كتب عدة نصوص مسرحية للأطفال وأخرى للكبار ونشرها في صحف ومجلات عراقية وأردنية وسوريّة … وقد عُرض قسم منها على خشبة المسرح.
عمل في الصحافة منذ عام 1964، ونشر دراساته النقدية والقصصية والمسرحية في المجلات الثقافية العربية المتخصصة.
وعمل خبيراً في وزارة الثقافة ورئيساً لتحرير المجلة (المركزية لوزارة الثقافة (دجلة) مسؤول الملحق الثقافي (أبعاد ثقافية) في جريدة التآخي التي سبق وأن بدأ العمل فيها منذ عام 1971.
عمل مديراً لتحرير مجلات وزارة الثقافة منها: آفاق عربية، الأقلام، الثقافة الأجنبية، الطليعة الأدبية، المأمون..
عضو الهيئة الاستشارية في دار الشؤون الثقافية العامة لسنوات عديدة. عضو الهيئة الاستشارية في دار الثقافة والنشر الكردية حالياً.
• ما الذي تعنيه لك (الموصل) كمكان وكبيئة أسهمت بميولك ورغباتك؟
– الموصل.. وما أدراك بالموصل، التي أردت أن أرد جميلها بميلادي، فكتبت عنها قصصي (الغضب) عام 1976، وقبلها بقليل نشرت في مجلة (الآداب) البيروتية قصة (الذي يتجذر في الأرض) فإذا الأصوات والكتابات تشن حملة ضدي.
الشاب الفتي شد رحاله على عجل متوجهاً الى بغداد.. وكان القريب مع نفسه ومحيطه ثقيلاً.
وعندما عدت بعد سنوات، فوجئت بأن قدراً من الجفاء ما زال قائماً..
إعدام اخي الشيوعي وعد الله النجار عام 1964 ما زال في ذاكرة المدينة. وتعييني معلماً كان مرفوضاً من بين جميع خريجي معهد المعلمين.. حتى إذا تم بعد سنتين من التخرج، كنت المعلم الوحيد في أقصى قرية كردية لا أعرف لغة أهلها، وليست بهم معرفة بالعربية.
وبقيت محنة التعايش قائمة حتى وأنا أعمل في جريدة (التآخي) مراسلاً منذ تأسيسها حتى قبيل توقفها عن الصدور بعام واحد بعد تهديدات بترك العمل فيها.
وبقيت علاقتي بأهلي في الموصل بين مد وجزر.. بين قرية نائية، والعطلة الصيفية في بغداد.. والحذر يلاحقني.
حتى إذا اتنفس العراق بعد 2003 لم أكن ممن انعشته هذه الأنفاس، ففي الموصل اغتال المتطرفون ابنتي في العام 2007 وقبلها ابني في بغداد عام 2006.
في الموصل.. لم اعرف طفولتي ولا شبابي، نشأت عاملاً صحبة ابي، ثم أخذت دوري في زاد أهلي وأنا شاب يعمل في البناء وصباغة الدور..
صفحات الحياة الموصلية قليلة جدا منها وجود ذاك الأستاذ الجليل عبد الحليم اللاوند، مدير المكتبة المركزية العامة الذي وضع كل كتب المكتبة تحت تصرفي.. وهي كنز لم ولن أجد حتى الآن أوفر منه، كما اذكر المرحوم إبراهيم الجلبي، رئيس تحرير جريدة (فتى العراق) الذي استدعاني لأكون محرراً في جريدته كأصغر صحفي عراقي، آنذاك.
لكنه استغنى عني بسبب إعدام أخي بعد عملي لمدة (15) يوماً.
الموصل.. جذر دام في حياتي، ومآس كثيرة في شبابي وشيخوختي.
الموصل، شجرة لوز في (الدواسة) بقيت اقرأ تحت ظلها، ومصباح شارع في حي (الشيخ فتحي) درست تحت ضوئه..
وحب بكر.. وتم وأده لمرتين...
وسجن متكرر، وصداع نصفي ما زال يثقل عليّ حتى اللحظة.
• في أغلب شخصيات قصصك طابع متأزم ومُحبط.. وهذا ما كان واضحاً في مجموعة (الغضب) و (الأشواق)؟ ما هو تعليقك؟
– صحيح.. الإنسان المأزوم والمُحبط، الامر طبيعي، فماذا تريد من إنسان لم يضحك ملء قلبه طفلاً، ولم ينظر الى قصص الحب إلا ترفاً وهو في شبابه؟، (الغضب) كتبت في السجن، وصدرت بحجم الكف، وتم الحديث عنها وضدها بحجم الحقد والقليل.. القليل من الحب..
هذا الوضع المرير الذي استقبلت به قصص (الغضب) جعلتني انتقل الى الكتابة الرمزية.. حتى أصبح شعاري الذي ما زلت أعمل على وفقه: “ الرقص تحت زخات المطر دون أن ابتل” فيما كنت أعمل وأكتب بكلمات معينة: “ إن سكت مت، إن قلتها مت.. قلها ومت” وأنا لا أريد أن أموت ولا أصاب بمرض ولا أنام.. لاقرأ وأقرأ فحسب.
ذلك أن القراءة زادي وسعادتي وحياتي كلها..
ولأني حذر، كنت ولم أزل، أفكر ألف مرّة في إهداء كتبي للنقاد، ذلك إنني أتوسلهم ألا يكتبوا عني ويكشفوا أوراقي، ويفتحوا أبواب رموزي.. لا.. لا توجد حيادية في قصصي ولا في كتاباتي كلها. أنا لا اكتب إلا عندما أجد ضرورة للبوح ولتقديم موقف ما.. الكتابة متنفسي الوحيد.. ولا أجد ما أُصرحه بحقيقة ما أحمله من أفكار ورؤى وأحلام. نعم الكتمان) يهيمن على روحي، بعد جملة الإحباطات والملاحظات والمنغصات والأوجاع.. التي عشتها.
أنا إنسان محكوم بكتمان الأسرار. وأنا خير من يؤمن حفظها سراً من أسراري التي احترمها فيّ على الأقل، إلا أنها على نحو ما، تبدو واضحة في موقفها وفي حضورها الذي ينتمي لقيم العدالة والحرية والحقيقة بكامل آفاتها.
• كيف ترى المشهد الروائي والقصصي الآن في العراق؟
– مشهد القصة والرواية الآن.. مشهد مرتبك، تسوده الفوضى، الكل يكتب عن تجاربه العاطفية.. وهي هامشية في الغالب، ومن يملك المال لطبع قصصه ورواياته، يتحول في زمن قصير الى ظاهرة، يمجّدها الأصدقاء والخلان وبعض (النقاد) كذلك.
أنا على علاقة وطيدة بما ينشر.. سواء بما أتابعه وما يردني ويُهدى إليّ، أو بما أدرسه وأتفحصه من روايات وقصص، يطلب أصحابها الانتماء لعضوية اتحاد الأدباء، أو الى دور النشر الرسمية التي تروّج طبعها..
لذلك أستطيع التأكيد الى أنني خير من يتابع ويرصد ويحكم كذلك على هذه الظاهرة السلبية للقصة والرواية العراقية راهناً.
• كتبت النقد في المسرح سنوات طوال، وفي فترة ازدهار المسرح العراقي.. هل تعتقد أن النقد المسرحي، يسهم في حضور الناتج المسرحي وجودته؟
– جئت الى المسرح من صفحات الأدب، قرأت جميع المسرحيات التي ترجمت في مصر عن طريق سلسلتين.. ومعظم الدراسات المسرحية المترجمة. ودرست جميع الكتب التي كان يدرسها طلبة معهد وكلية الفنون، قسم المسرح وحضرت دروس: سامي عبد الحميد وبدري حسون فريد، وصلاح القصب، ومحمد جواد.. من دون أن أكون طالباً.. وأصبحت محاضراً في معهد الفنون الجميلة للقسمين الصباحي والمسائي وأنا الوحيد الذي لا يحمل شهادة متخصصة في المسرح، وإنما ناقد بات يمتلك خبرة تفوق عدداً كبيراً من المتخصصين.
ليس هذا ادعاء ولا مبالغة ولا غروراً، لكنه جهد حقيقي من المسرح.. كان يسري في خلايا دمي، حتى إذا لاحقتني المحاكم وعدد من (المسرحيين)، ودعت المسرح، بعد ان كنت الرائي والناقد الذي يرصد جميع العروض من دون استثناء في الثمانينيات والتسعينيات.
الآن... يعترف كثرة من المسرحيين أنني كنت.. وكنت ولم أكن أكثر من راصد حقيقي ومخلص في دعوته لبناء حضور مسرحي راقٍ يسهم في توعية المجتمع الآن.. ومن قبل كان هناك: مسرح استهلاكي يسمونه (المسرح الشعبي)، ومسرح شكلي تسوده الحركات التعبيرية يسمونه (المسرح الحديث).
• كنتَ كما اتذكر ناقداً (مشاكِسا) في المسرح، بل وسبّب لك الكثير من الإشكالات؟ ما هو تعليقك على ذلك؟
– للأسف... نحن قوم على عداء دائم ومع النقد والنقاد.. واعتقد أن الجادّين قد عرفوا هذه الحقيقة، وباتوا يكتبون في مدار العرض المسرحي، ومدار القصة والرواية كذلك بحيث لا تبين رأي النقاد ولا موقفه.
هناك (نقد إخواني) وأنا على الضد منه. النقد كما أفهمه تقويم للعمل، وإذا كان في العمل الفني والأدبي إيجابيات فهذا من ضرورات وجوده، ومهمتي الكشف عن سلبياته إصرار على الخطأ.. وهو جهل أيضاً.
النقد... من ضرورات الحياة، ضرورات أن نعرف حقيقتنا في عيون الآخرين، ذلك إننا لسان في عزلة تامة عن الآخرين حتى لو كانوا جميعاً.. والأمر في النهاية ملك قناعة أي واحد منا.
• الطريف إن أبناء لك امتهن أحدهم القصة والثاني المسرح فأجادا.. بمَ تفسر ذلك؟ والى أيهم تنحاز؟
– أنا سعيد بهذا الإرث الثقافي والجمالي لأبنائي. لقد وضعت أمامهم كتبي وتجاربي.. ومن فرط حبهم لي، توجه: د. صميم الى فن المسرح، ينهل من جديته وقيمه وأفكاره وأنا سعيد بكتاباته النقدية التي أعدها دراسات عميقة تجاوزت كتاباتي النقدية.. كما أن ابني: نهار.. كتب القصة والرواية، ونشر في (الآداب) و(الأهرام) أجمل نصوصه الذكية.. وهو يتمتع بمخيلة رائعة.. وقد توجه الآن نحو كتابة السيناريو، وسيشهد الجمهور أعماله البكر في شهر رمضان.
أما ابناي: نقاء وسلام، فتوجها للتصميم الصحفي ولهما منجزات واضحة وأساسية ومنظورة في هذا الميدان. نقاء يصمم الآن في دار المأمون، وسلام مصمم في دار الثقافة الكردية العديد من الكتب. أما ابني البكر: بدران، فهو فني كهربائي ناجح.
ومن غبطتي أني تمكنت من التأثير في أبنائي، بحيث أورثتهم موهبتي المتواضعة في المسرح والقصة والتصميم، ومع أن هذا (الميراث) لا يحصدون منه مالاً.. ولكنه (ميراث) له علاقة متينة بالمواقف الصادقة والكلمة النظيفة والتعايش مع الجمال.. شكلاً ومحتوى، وهذا ما كنت أصبو إليه وأعدّه عملاً مشرفاً لصاحبه.
أحسنت يا عزيزي.. نعم القصة والنقد عندي (أقنعة لوجه واحد) ولو توقفت عند قصي لوجدت فيها بعداً نقدياً واضحاً ولكن بأسلوب القصة.
والمقال.. أي مقال اكتبه: عمود صحفي، ونقد مسرحي، نقد تشكيلي، نقد أدبي، مراجعة لكتاب.. فان هذا النقد يراد منه، توجيه وتنبيه الآخر وليس الإساءة أو النيل من شخصه أبداً.
النقد من اسمى وأنبل الكتابات وأصدق العلاقات الإنسانية التي يفترض بنا احترامها والتعامل معها تعاملاً واقعياً ومحموداً وليس العكس كما هو الحال في منظور كثرة من الناس.
انا كاتب يعي ما يقول، ويهدف الى تحقيق ما يريد بدقة ونباهة لا أدعيها ولكنني أملكها., وهي صفات قد تثير غضب الكثيرين للأسف.
• عشت مرحلة مهمة في الثقافة العراقية.. هل تفكر في توثيقها كسيرة أو مذكرات.؟
– نعم.. هذا صحيح، عشت مرحلة مهمة من تاريخ الثقافة في العراق. ولكن هذا العيش لم يكن محفوفاً بالورود ولا بالأحلام السعيدة.
كانت هناك حياة حافلة بالتجارب الصعبة والمملوءة بالمحن والعقبات. عشت ثقافة وطنية تقدمية، مثلما عشت الى جانبها ثقافة هشة وعابرة.. واذكر إنني قد تنبهت الى هذا التباين بين الثقافتين عندما كنت أعمل خبيراً للأعمال الدرامية في تلفزيون بغداد، فقد قرأت عشرات النصوص الفاشلة والعابرة والثرثارة، ولم اقرأ إلا القليل جداً من الأعمال الدرامية الجادة والمرضية كنصوص:
زهير الدجيلي، عادل كاظم، معاذ يوسف، وبعض نصوص صباح عطوان.
وقد هيمنت النصوص الهشة على وعيي وثقافتي، حتى تنبهت الى ما أصبحت عليه من الأجور المالية الجيدة التي تصرف لي عن قراءتها في وقت كنت فيه أعاني من شظف العيش.. وعدت الى قراءاتي الجادة، بدلاً من تلك النصوص الدرامية التي دمّرت ذائقتي الفكرية والجمالية.
كذلك.. أجدني أعتز بأنني كنت أعمل في أهم الصحف والمجلات العراقية المرموقة: آفاق عربية، الأقلام، الثقافة الأجنبية، الحكمة، الاديب المعاصر، السينما والمسرح، الإذاعة والتلفزيون، دجلة، المأمون، تضامن... الثورة، التآخي وغيرها..
مثلما أعمل اليوم في مجلة (الثقافة الجديدة) وجريدة (طريق الشعب) لقد كنت ولم أزل.. مساهماً وفاعلاً في المشهد الثقافي العرقي وآمل أن أكون موفقاً في عملي هذا.. ولا أفكر بكتابة سيرة لما كان.. فهو تجربة.. في حين يفترض ان نلحق بمتغيرات العالم على عجل لا أن نكرر ما كان وما كنا (كانت الآمال كبيرة) كما يقول: تشارلز ديكنز.
كانت.. وما كان فينا من آمال وأحلام ورؤى تبدد كله، وبتنا للأسف نعيش.. ليس أسفاً على ماضٍ يسوده التعسف والظلم والقتل والفساد وإنما على امتداد هذا الحال وأن يصور بألوان وأشكال جديدة.
لقد دفعت على المستوى الشخصي خسائر حياتية في السلطة السابقة، مثلما دفعت الكثير في الزمن الراهن.
• ما الذي كنت تأمله بعد 2003 ولم يتحقق في الواقع الثقافي العراقي؟
– ما كنت أصبو إليه.. لم يتحقق حتى الجزء الضئيل منه.
إن الطموح الذي ننشده، لا يتحقق بسهولة، وذلك بسبب حجم الخراب والفوضى السائدة، الى جانب الجهل والتجهيل الذي يسود البلاد حاضراً في جميع الميادين وكل الاتجاهات، وإذا ما تم إعمام الجهل وإعمام المكاسب الفردية، فان الأمور ستمضي نحو المزيد من التدهور، وهذا ما لا يمكن للفرد والجماعات العيش فيه على هذا النحو.
نحن بحاجة أساسية الى الوعي والانتباه الى ما يجري، وقد برزت صفحات من هذا الانتباه لدى الشبيبة التي باتت تعرف دروبها في هذا الواقع المرير الذي يعمل على وأد أصواتها.. لكن إصرارها ووعيها شأنه شأن نافذة نحو المستقبل.