إرادة الذاكرة..أصابع حسب الله يحيى الرمزية

إرادة الذاكرة..أصابع حسب الله يحيى الرمزية

ناجح المعموري

تثير مجموعة القاص حسب الله يحيى الأخيرة (أصابع الأوجاع العراقية) شبكة من الأسئلة عن السبب الفني الذي جعل القاص متحمساً جداً كما يبدو من عنونات القصص. والمركز الجوهري الذي انفردت به وسط ممكنات مجاورة المعنى،

لكن هذا لم يتبدَ لي وأنا أطوف على العتبات النصية الكبرى في مجموعته، وأعني بها العنوانات التي يجب أن تُقرأ بوصفها موجهاً مساعداً لا بل مهماً في مستوى ونوعية التلقي. وخصوصاً العنونة التي تمظهرت عنها هذه المجموعة. لأن تكررها ليس اعتباطيا، بل قصديته واضحة، ترشح عن قصدية القاص في اختبار تخيلاته وقدراته المتلقي، ووجدت ميلاً إن تعدد القراءات التي اطلعت عليها، أفضت الى تنوع في المعاني وكلها مثيرة للتأمل والمساعدة على فتح منفذ أعمق باتجاه التأويل والفحص. لكني وجدت في قراءات للعنوانات اختلافاً كلياً عن غيري من الأصدقاء الذين احترمت توصلاتهم الثقافية.

بودي الإشارة أولاً للأهمية الرمزية التي تنطوي عليها الأصابع وهنا مكمن اللغزية والأسطورية. ومثلما قال نيتشه: لا يمكن أن نعيش بدون حقائق، لأن الحياة لا تطاق، وحقائقنا المهمة هي الرموز ذات الحضور المركزي في الحياة، وحصراً في القرابات ومتخيلاتها، الأساطير / الطقوس / الشعر، وأيضاً البدايات الاولى التي ابتكرت الخلق والتكوين وصاغت وسط غبطتها رموزها الأولى. وأنا لا أستطيع تجاوز كل تلك الحقائق البدئية وأنا اقرأ هذا الجهد الاشكالي معرفياً، وكأن القاص حسب الله يحيى استجمع ما يريد قول ما هو جوهري وحيوي. ونحن نعرف جيداً بالذي أراد قوله، ليس الآن وإنما منذ زمن بداياته الاولى. ولم تكن هذه التجربة هي الأولى التي يذهب إليها حسب ويمسك بحقائقنا الرمزية ويشتغل عليها، لكني أجد بأن هذه المحلولة مغايرة عما سبق، لأنه ذهب باتجاه وحدة الشبكة الرمزية في ما يقارب من عشرين قصة. وهذا عدد يخلق ارباكاً للمتلقي على الرغم من الدور المساعد الذي يطفر واضحاً من الوحدات السردية الخاصة بكل قصة. لكني أجد هذه العنونات ذات حضور مثير للمتعة والقلق، ومتعتها أكثر، لأنها تشحذ الذاكرة، وتكشف عن المستور في كل عنونة. وكل منهما تنضج عن معنى مغاير وذات ثقل ثقافي ومعرفي وايضا التسامي بالشعرية المخفية في مثل هذه الشبكة الرمزية، التي تعاملنا معها باعتبارها ميراثاً للغائب وطاقة مقاومة لما هو مضاد حياتياً. وكل المثير في تنوعات هذه المعاني امتد إلينا عبر وحدات أسطورية وعقائد وطقوس، كذلك مع وقائع واحداث تاريخية.

يذكرنا الإله انليل رئيس السلطة التنفيذية في مجلس الآلهة الذي منح اليد قدسية عالية وجعلها مقترنة بالفأس الذي حاز رمزية خاصة به باعتبارها وسيلة العمل والبناء، وكل ما اتصفت به اليد، ارتحل للأصابع، لأنها اليد لا تكون لولا الطاقة الظاهرة في امتداداتها المعروفة. وأيضاً هي ــ اليد ــ التي ترحب وتعطي السلم وتستلم الشرائع مثل حمورابي وهو يأخذ شرائعه من الاله شمش. ولولا اليد لما كانت الحضارة الانسانية وللشاعر عبد الزهرة زكي مجازاً جميلاً هو “ اليد تكتشف “ ويأتي العون الجمالي من اكتشافات اليد المخفيات، واللمسيات / والتمسيحات / والتشارك اللذي.. الخ. ويأخذ هذا الى لفيناس المفكر الفرنسي الذي ذهب نحو الكامن الفعال في الأصابع وهي تتلمس وتبث حرارة في الجسد الانثوي الإصبع رمز رجولي في العلاقة. مع الأنثى وهو يؤدي دوراً قضيباً، كما يتمتع الإصبع بحضور خاتل أو مكشوف اقترانا بالطفولة المبكرة والتي تم إخضاعها للفطم عن مدرات الأمّ ويستعيض الطفل ببديل شخصي وهو إصبعه بالطريقة المألوفة لنا.

ومثلما قلت بأن دلالات الأصابع في قصص حسب الله مقترنة باليد، فالرغيف الساخن يحفظ أصابع الأمّ أو المرأة التي تنجز لنا الخبز وأعطته قداسة، متأتية إليه، لأن الأم الأولى التي اكتشفت الزراعة وتوصلت للخبز ويعود هذا التكوّن الثقافي للترابط الكامن بين الأمّ والمسيح وإعداد الخبز، فهو رمز لجسد المسيح.

أنا وجدت الإشارة الأقوى والمثيرة للمتعة في الفحص والسعي للتأويل هي أصابع حارس المتحف. هذه لها اقتران مع أصابع بهنام أبو الصوف الذي حفر واكتشف واودع المتحف كل ما وجده ــ وهذا جزء من منجزات ــ اليد تكتشف ــ وللحارس دور مثير بشعريته وهو يقف أمام الباب الذي يمثل قوة هائلة وموروثة ومضاف اليها من أجل جمالية باب المتحف. هو لا يقصدها حصرياً، بل مجازه المحفوظ بالداخل، الكنز / الذاكرة الحافظة لحياة تمتد لآلاف السنين. حارس المتحف، أصابعه المتحسسة للباب وسرها القوي الخازن لسرديات فيها تمثيلات لهوية الأمة. والمحفوظات كلها هي ميراث الغائب الذي تشترك به شعوب كثيرة، والحارس يؤدي وظيفة انسانية كبرى.

تتسامى الأصابع ذات الوظيفة العظمة، مثل أصابع بهنام أبو الصوف المختزلة لآلاف من أصابع الباحثين عن حقائق غائبة، أي رموز معبرة عن جماعات / وقبائل لا أحد يعرف عنها شيء. أصابع أبو الصوف المرنة / اللّينة الهادئة جداً وهي تحفر، تكشف، تزيل التراب، قليلاً قليلاً حتى ترى رمزاً أو نوعاً دالاً عن عتبة حضارية.

الثنائيات قائمة. مثل أصابع حارس المتحف + أصابع بهنام أبو الصوف، وأيضاً أصابع النساء + أصابع اللّذة والأخيرة هي مكمن تصورات المفكر لفيناس بالعلاقة مع الأنثى، أصابع النساء كم هي وظائفها مع الجسد ومع الآخر، هي البديل عن المذكر المطرود، أو الذي لم يحضر وتأخر كثيراً. بمعنى تتحول أصابع المرأة الى اصبع للذة وأصابع الركل تعطي لذة للذات وللآخر.

تنفتح أصابع الأوجاع العراقية على تنوعات عديدة، مثل تنوعات قرأت القراء لها. ولكن لابد من إشارة أخيرة ذات علاقة كبرى بالحياة التي تمظهرت في هذه القصص ولم تغب المرجعيات الخاصة بها. لكني اعتقد بأن الرمزيات هي التي منحت القصص طاقة للحضور وتنوع التأمل بوجود كامن علينا اعادة معرفة تفاصيلة المكانية والمادية، لأن اشتغالات اليد وأصابعها لا تغادرها هذا المكان. أصابع حسب الله يحيى تلوذ وستظل هكذا بالبعد الفلسفي للمكان والفضاء، وحتى إذا حاولنا استكشاف بعدها الميثي والانثربولوجي فهي ذات أبعاد مرتبطة بعمق بالفلسفة والظاهراتية هي الفاعل في تحويل الأصابع الى شيء هامشي لكثرة تعايش الإنسان معها الى طاقة مادية مؤثرة.