عبد الحميد الرشودي
باحث راحل
الاستاذ حسين جميل شخصية وطنية مرموقة وعلم من اعلام القانون عرف على مدى اكثر من نصف قرن بمواقفه الوطنية المعتدلة من القضايا العامة وهو اذ يقدم لنا في هذا الكتاب سيرته الذاتية. ويدلي بشهادته على احداث عصره انما يقدم للاجيال خلاصة تجاربه وانطباعاته عن حقبة هي من اشد حقب تاريخنا المعاصر اضطرابا اختلفت فيها الاراء وتباينت الاحكام ومن احق من حسين جميل وهو من العدول ان يدلي بشهادته ويحكم لها او عليها ورائده في احكامه عقل يقظ وضمير حي.
استهل المؤلف كتابه بنبذة عن سيرته الذاتية فحدثنا عن ايام طفولته وصباه وبين المؤثرات السياسية والفكرية التي اثرت فيه وطبعته بطابعها الخاص ثم شرع يحدثنا حديث الخبير العارف عن المواقف الديمقراطية التي وقفها الشعب العراقي في بواكير نهضته ثم قفي على ذلك بالحديث عن الانتداب والمعاهدة العراقية الانكليزية الاولى والظروف التي اكتنفت وضع الدستور العراقي وبعد ذلك عطف الكلام على الحركات الطلابية متمثلة بحادثة كتاب انيس زكريا النصولي “الدولة الأموية في الشام” ومظاهرة الطلاب الاحتجاجية على زيارة الداعية الصهيوني الفريد موند في 8/ شباط 1928 الى بغداد وختم ذلك بالتظاهرة الشعبية في تشييع الشيخ ضاري المحمود الذي توفي في مستشفى السجن في 1/ شباط/ 1928 اي بعد يوم واحد من صدور الحكم عليه بالاشغال الشاقة المؤبدة.
ثم يعود المؤلف ثانية الى سيرته الذاتية فيحدثنا عن فصله من كلية الحقوق ببغداد والتحاقه بمعهد الحقوق بدمشق وما عرض له هناك من علاقات ومناسبات ويختتم كتابه بموضوع، معالم في الحكم العراقي من انتحار السعدون الى تشكيل نوري السعيد وزارته الاولى سنة 1930.
ولعل في حديث المؤلف عن الاسباب العامة لظاهرة “الازدواجية” في الحكم لدى الملك فيصل الاول وبعض السياسيين ما يقيم الدليل على اعتصام المؤلف بحكمة الشيوخ والافادة من التجارب فقد كان دقيقا في عبارته محترزا من الانسياق وراء العواطف والاحكام الشائعة قال، وهو يحدد منهجه ووجهة نظره: “واستكمالا للصورة، اذكر ما اعتقد انه احد اسباب “الازدواجية” في بعض مواقف وتصرفات واقوال بعض السياسيين، وارجوا ان يلاحظ القارئ كلمة “بعض” التي كتبتها مرتين “بعض مواقف” و”بعض السياسيين” وما اقصد اليه من هذا التنبيه هو ان ما ساذكره قد لايكون قد وقع إلا من عدد قليل جداً من السياسيين كما انه قد لايكون قد وقع إلا في موقف او تصرفات أو أقوال قليلة جدا ايضا. وهذا الذي اريد ان اذكره هو ان بعض الساسة ممن تولى الحكم كانوا يعرفون ان “مركز القوة” في النظام السياسي في عهد الانتداب هو بيد الانكليز فهم اذا ارادوا البقاء في الحكم او العودة اليه وحتى ضمان مقعد لهم في البرلمان – وقد كانت انتخابات مجلس النواب مسيطراً عليها، وعضوية مجلس الاعيان بالتعيين – فان ذلك يتطلب مسايرة السياسة البريطانية – ولو الى حد ما – لذلك فهم يفعلون ذلك في موقف ما او تصرف ما ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يريدون ان يحفظوا لانفسهم مكانا ما في اوساط الشعب لذلك اتخذوا موقفا ما او تصرفوا في أمر من الامور على وجه يرضي الحركة الوطنية ومن هنا جاءت “الازدواجية” ومن حسن الحظ ان عدد هؤلاء السياسيين قليل جداً. وحتى بالنسبة الى هذا العدد القليل جداً، ارجو ان اكون مخطئاً في نظرتي هذه، لكي لا يكون في العراق من جامل الاجنبي ونظر للامور العامة بعينين مختلفتين” ص132.
وبعد ان يبين وجهة نظره في المظاهر السلبية للنظام الملكي يرى ان مرد الخلاف بين السلطة والمعارضة يعود الى ان المعارضة قد اخذت “بالمطلق” على حين ان السلطة قد اخذت “بالنسبي” التي كانت تسترشد بسياسة الملك فيصل القائمة على مبدأ “خذ وطالب».
ويتوصل المؤلف الكريم بعد دراسته الرصينة الأمينة الى تقويم الاعمال التي وقعت في العهد الملكي تحت الظروف الموضوعية التي عرضها بشيء من التفصيل في كتابه فيخلص الى ان الخلاف يدور حول الصحة والخطأ ولا يمس وطنية الذين اتبعوا تلك السياسة وقد عزز رأيه هذا بان الدراسات التي تمت والكتب التي الفت وكشفت عن كثير من مقومات ذلك العهد وخاصة بعد ان تم الاطلاع على اوراق العهد ووثائقه، فان كشف الحساب هذا لم يظهر لنا مطعنا في وطنية اولئك الساسة الذين شغلوا الوزارات في العهد الملكي وشغل بعضهم رئاسة الوزارة حتى اولئك الذين نسبوا اليهم اخطاء في مواقف اتخذوها او في سياسة اتبعوها، فان احداً منهم لم يرجع ذلك الى سبب يمس الوطنية، انما هي مواقف اتخذت وسياسة اتبعت باجتهاد انها مواقف وسياسة في صالح العراق وولاؤهم للعراق.
ومما يؤيد صحة ما ذهب اليه المؤلف الفاضل ان المرحوم الشهيد السعيد عبد المحسن السعدون، وقد كان اشد الساسة الذين تعرضوا للاتهام بمصانعة الانكليز وتنفيذ سياستهم ومسايرة خططهم قد اضطر بعد ان استمع الى خطب المعارضة في جلسة مجلس النواب المنعقدة صباح الاثنين 11/ تشرين الثاني 1929 وهم يكيلون له التهم ويسددون اليه قوارص الكلم وسهام النقد وخاصة النائب معروف جياووك الذي حرف كلام السعدون عن مواضعه وزعم انه يدعو الى الثورة على الانكليز (كما جاء في جريدة نداء الشعب العدد 488 – 58 الصادر يوم الاربعاء الموافق 13/ تشرين الثاني 1929) فما كان من هذا الرجل النبيل إلا ان يؤوي الى غرفته مساء هذا اليوم وبفرغ مسدسه في صدره بعد ان كتب وصيته المؤلمة والتي اعتبرت الكتاب الأحمر للقضية العراقية والتي جاء فيها “.. وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الناموس من امثالي، يظنون اني خائن للوطن، وعبد للانكليز ما اعظم هذه المصيبة! انا الفدائي الاشد اخلاصاً لوطني قد كابدت انواع الاحتقارات وتحملت المذلات محضا في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي واجدادي.. ».
من أرشيف الراحل الرشودي