إبن طفيل الفيلسوف الذي حول الحكمة إلى حكاية بديعة

إبن طفيل الفيلسوف الذي حول الحكمة إلى حكاية بديعة

محمد الغزي

كان يكتب بعقل فيلسوف وخيال شاعر. لغته مزيج من الحكمة والرموز العرفانية. حين أراد أن يتحدث عن فلسفته لجأ إلى الأسلوب القصصي وحدثنا، كما يتحدث الرواة في تراثنا العربي، فنقل عن السلف الصالح أن طفلاً نشأ في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يولد فيها الإنسان من غير أم ولا أب وفيها شجر يثمر النساء.

ثم اندفع ابن طفيل يروي قصة هذا الطفل الذي حنت عليه ظبية وألقمته حلمة ثديها وأروته لبناً سائغاً، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى حتى كبر وشب عن الطوق. يا لهذا الخيال الساحر الذي يذكرنا بلؤلؤة أخرى من لآلئ الأدب العربي ونقصد بها “ألف ليلة وليلة”. كيف تمكن هذا الفيلسوف “العاقل” من خلق هذه الأسطورة الحالمة؟ كيف حول مفاهيم الفلسفة ومصطلحاتها الغامضة إلى صور شعرية ورموز كنائية؟

ذاك جانب من جوانب هذه الشخصية الاستثنائية في تاريخ الفلسفة العربية أبي بكر بن طفيل.

من هو ابن طفيل؟

في مدينة وادي آش القريبة من غرناطة التي يعبرها نهر فردس وتملؤها أسواق الحرير والكتان، ولد أبو بكر بن طفيل القيسي الأندلسي في أوائل القرن الثاني عشر. درس الفلسفة والطب وعلوم الشريعة في غرناطة فنبغ فيها جميعاً. تقلب في مناصب كثيرة، فكان كاتم أسرار حاكم غرناطة، ثم صار، بعد ذلك، وزيراً وطبيباً للأمير يوسف أبي يعقوب بن عبد المؤمن. وكان هذا الأمير، على ما يقول المؤرخون، أعلم الناس بكلام العرب، وأحفظهم لأيامها، فيه فطنة وذكاء. تعلم مبادئ الحكمة فأراد الاستزادة منها فاتخذ ابن طفيل وزيراً وطبيباً، وطلب منه دعوة مشاهير حكماء عصره إلى البلاط، يعقدون فيه المجالس العلمية، للجدل حيناً أو للرد على الخصوم حيناً آخر.

ذكر ابن رشد أن ابن طفيل جاءه يوماً وأخبره أن أمير المؤمنين ما فتئ يشكو من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول “لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل”. قال أبو الوليد “فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس».

تؤكد هذه القصة التي رواها ابن رشد نفسه أن لابن طفيل الفضل في العلاقة التي انعقدت بين الأمير وابن رشد، والتي أفضت إلى تلخيص أعمال أرسطو والتعليق عليها، علاوة على تأليف عدد من الرسائل والكتب الفلسفية.

وروى ابن رشد بتأثر كبير قصة لقائه الأول بالأمير، بحضور ابن طفيل الذي أطنب في مديحه، مشيداً بأخلاقه، منوهاً بتبحره في شتى العلوم. يقول ابن رشد “كان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيكم في السماء؟ يعني الفلاسفة أقديمة أم محدثة؟ فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وأذكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل. ففهم أمير المؤمنين مني الورع والحياء فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويذكر مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة علم لم أظنها في أحد من المنشغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب».

هذه القصة تنطوي على موقف ابن طفيل من العلاقة بين العقل والشريعة أو بين الفلسفة والدين، فتصور بأسلوب ممتع مغامرة العقل الإنساني يتدرج من المحسوس إلى المعقول ومن التجسيد إلى التجريد، ليدرك كل الحقائق الكونية الكبرى.

تروي حكاية طفل شب في جزيرة منعزلة، ترضعه ظبية وتحميه من بقية الحيوانات، حتى تمكن بعد سنوات من الإقامة في مملكة الطبيعة، من محاكاة أصوات الحيوانات والطيور. ثم أراد التوغل أكثر في المعرفة، فعمد إلى تشريح الظبية التي كانت تغذيه بلبنها بعد موتها. ولم يزل ينعم النظر فيها حتى تمكن من فك بعض أسرار الحياة، انتقل بعد ذلك إلى الفلسفة وعلوم الدين وأثبت، بعد طول تدبر، وجود خالق يتحكم في كل شيء، وعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث. وفي النهاية وبعد أن انكشفت له كل هذه الحقائق قرر أن يعيش حياة زهد واعتبار. وذات يوم قدم رجل من جزيرة مجاورة يدعى آسال، فعلمه اللغة، ودربه على الحياة الاجتماعية. واندهش هذا الرجل حين لاحظ أن حياً قد تمكن بمفرده من اكتشاف كل الحقائق التي تضمنتها ديانته، معولاً على الملاحظة والاستقراء.

عندما علم حي بن يقظان أن عقائد الناس فوق الأرض باتت تتسم بالخشونة، قرر مغادرة الجزيرة والذهاب إلى الناس يرشدهم ويعلمهم. لكن الناس انصرفوا عنه ولم يهتدوا بكلامه، فقرر عندئذ العودة إلى جزيرته ليعيش في مملكة الطبيعة من جديد مع الحيوانات والطيور.

يذكر ابن طفيل أنه أقدم على تأليف هذا العمل بعد أن سأله أحدهم عن أصل المعرفة الإنسانية فيقول “وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة لا يصفه الإنسان ولا يقوم له بيان”. وبعد طول تفكير وتردد كتب “حي بن يقظان” إجابة عن هذا السؤال.

يقول الباحث حسن حنفي “لا يوجد نص فلسفي كتب أربع مرات من أربعة فلاسفة مختلفين وأحياناً مع تغيير العناوين مع بقاء المضمون مثل قصة حي بن يقظان، فهي مع أصلها اليوناني (سلامان وابسال) قصة رمزية لابن سينا (428 هـ) ولابن طفيل (581 هـ) وللسهروردي (587 هـ) وابن النفيس (687 هـ)، والموضوع واحد. كيفية الوصول إلى الحقيقة بالعقل الخالص من دون الاعتماد على معرفة لدنية. والعقل الخالص هو العقل الطبيعي الذي يتأمل في الظواهر الطبيعية والجمادية والنباتية والحيوانية».

ثم يشرح العنوان قائلاً “للعنوان دلالة رمزية، حي بن يقظان، فالحياة بنت اليقظة. واليقظة هي الأصل والحياة هي الفرع. فالإنسان يحيا أولاً ثم ينبثق الوعي من خلال الحياة».

ترجم إدوارد بوكوك الكتاب سنة 1617 إلى اللغة اللاتينية واختار له عنواناً طريفاً هو “الفيلسوف العصامي أو الفيلسوف الذي علم نفسه بنفسه» Philosophus Autodidactus، مشيراً من خلال هذه الكناية إلى شخصية ابن يقظان الذي أدرك الحقائق بنفسه. ثم تعددت، بعد ذلك، اللغات التي استضافت هذه الرائعة الأدبية إلى أن بلغت أربعين لغة. وهذا العدد من الترجمات لم يحظَ به أي أثر أدبي عربي آخر غير “ألف ليلة وليلة”. ويجمع الباحثون على أن هذه الترجمات قد تركت أثراً عميقاً في الآداب الأوروبية وفلسفاتها، إذ استرفدها الكثير من الأدباء كلما تحدثوا عن الإنسان الطبيعي، واستعان بها العديد من الفلاسفة كلما شرحوا النظرية الإشراقية أو مناقشاتها.

ومن الكتاب الذين اقتبسوا هذه القصة الكاتب البريطاني دانييل ديفو (1660-1731) الذي كتب مقتفياً خطى ابن طفيل قصته الشهيرة “روبنسون كروزو”. تروي هذه القصة، هي أيضاً، سيرة فتى عاش منفرداً في جزيرة بعد أن تحطمت السفينة التي كانت تقله. فكان عليه أن يبقى طوال ثمانٍ وعشرين سنة وحيداً منقطعاً عن أسباب الحضارة والمجتمع.

تصور القصة، بشاعرية لافتة، مراحل حياة كروزو في هذه الجزيرة، فقد بدأ في أيامه الأولى ببناء مسكنه من مخلفات السفينة التي عصفت بها الرياح، وبعد ذلك عمد إلى حرث الأرض وزرعها ثم إلى الصيد وتربية الماعز. وتتوالى المراحل، حتى يتمكن البطل، على الرغم من عزلته، من توفير الاحتياجات الأساسية بقوة عزيمته. هذا ما تريد أن تقوله القصة محتفية بالفردانية ورمزياتها، مشيدة بمزايا بزوغ أهمية الفرد في المجتمع الأوروبي.

إن حي بن يقظان يختلف اختلافاً بيناً عن كروزو، فالبطل العربي لم يعرف بشراً، ولم يألف إنساً، ولم يعش حياة اجتماعية وثقافية كما عاشها الملاح الإنجليزي. فلهذا جاء حي بن يقظان بصورة للإنسان يتدرج شيئاً فشيئاً في مدارج المعرفة، معولاً على فطنته وذكائه وخبرته التي تتنامى باستمرار.

توفي ابن طفيل في مراكش عام 1185 وسار المنصور في جنازته. أما مؤلفاته الكثيرة فقد ضاعت خلال الفتن التي عرفتها الأندلس ولم يبقَ منها غير “حي بن يقظان” ليشهد على عبقرية الرجل وتبحره في علوم شتى.

عن صحيفة الاندبندنت