الجواهري صحفيا.. وصحيفته الأولى

الجواهري صحفيا.. وصحيفته الأولى

رفعة عبد الرزاق محمد

قبل ان نلج عالم الجواهري الصحفي فأن صلته بالصحافة والصحفيين قد بدأت، منذ ان قرر الخروج من مدينته الضيقة (النجف) بنشر شعره في صحف العاصمة بغداد التي فتحت له صفحاتها واستقبلت ما يبدعه بكل تجلة وتقدير. فقد نشر في جرائد مختلفة مثل جريدة العراق لشيخ الصحافة العراقية رزوق غنام، وجريدة الاستقلال لعبد الغفور البدري،

وهي لسان المعارضة الوطنية في العشرينيات، وفيها ظهرت اول قصيدة منشورة له، وجريدة الفضيلة لعبد الرزاق الحسني، كما نشر شيئا من شعره في جريدة النجف ليوسف رجيب، والرافدان لسامي خوندة، ولسان العرب والمفيد لابراهيم حلمي العمر. اما المجلة الاولى التي نشرت له، فقد كانت مجلة العرفان الصادرة في صيدا بلبنانن وفيها نشر قصيدته العينية عن ثورة العشرين. وقد بقيت صلته برزوق غنام الى النهاية وقد استمد منه الكثير من التوجيهات في عمله الصحفي. ولعل من المفيد ذكره انه اختص بجريدة العالم العبي لسليم حسون بعد قضيته مع مدير المعارف العام ساطع الحصري، فقد كانت هذه الجريدة تنادي الحصري وتحتضن خصومه. اما أول عمل للجواهري له مساس مباشر بالحياة الصحفية، فقد كان أيام عمله في البلاط الملكي، فقد اختاره الملك فيصل ان يكون مسؤولا عن استطلاع اهم ما في الصحف وتقديمها للملك، واستمر في ذلك الى ان قرر الاستقالة ودخول المعترك الصحفي باصداره جريدة الفرات. الفرات قرر الجواهري اصدار جريدة باسم (الفرات) بعد ان قدم استقالته من البلاط الملكي، ويذكر الاستاذ عبد الكريم الدجيلي ـ راوية الجواهري ـ ان الملك فيصل الاول ارسل علي الجواهري ونصحه بالتريث وعدم التسرع. واخبره بأنه يرغب بأرساله الى باريس في بعثة دراسية مع جماعة منهم محمد مهدي البصير وقال له ان الصحافة غير بعيدة عنه بعد الدراسة، كما ان راتبه يجري على زوجته، وكان الجواهري قد تزوج حديثا، ولكن الجواهري أصر على رغبته ولم يعن بنصيحة الملك ولم يلتقيه بعد ذلك، ولعله كان في أول حياته ولم يخبر السياسة ودهاليزها. ويلمح الاستاذ رفائيل بطي في كتابه عن صحافة العراق الى ان وزارة نوري السعيد الاولى، ارادت ان تستعين بأديب فراتي لاصدار جريدة تروج لسياستها فحملت الاستاذ محمد مهدي الجواهري وكان موظفا في البلاط فاستقال واصدر جريدة باسم (الفرات). ومهما يكن، فقد صدرت الفرات في 7 مايس 1930 بأربع صفحات وقد جاء في رأسها انها «جريدة يومية سياسية عامة» لصاحبها ورئيس تحريرها محمد مهدي الجوارهي، وثمن النسخة آنة. وقد بينت في عددها لاول نهجها في افتتاحيتها بعنوان «خطتنا»، فقالت:.. ان خطتنا واضحة المعالم، مشرقة الجبين، فهي خطة هذه الأمة الكريمة، نزعتنا هي نزعتها القوية الى الحرية والاستقلال، وكل سبيل الى غير هذا السبيل مصيره المعرة ونتيجته الفشل، ولسنا في حاجة الى القول من أن هذه الجريدة ستكون لسانا ناطقا بالحق ولا يعرف المحاباة ولا المداجاة في ما تعالج من مشاكل وتبدي من آراء في السياسة والادب والاجتماع والتجديد، وانها ستكون سيفا مصلتا فوق رقاب الذين تسول لهم انفسهم التلاعب بمصائر البلاد ومقدساتها وتشويه جمال وحدتها والقاء العقبات في طريقها الى قمة المجد والعز.. لن تقتصر خطتنا على معالجة المسائل السياسية الراهنة فحسب، بل ستعنى جريدتنا عناية بليغة بالأدب العربي وبالنهضة الاجتاعية وسنولي حركة التجديد اوفر نصيب من الدرس والبحث والتأييد...». ورغم هذا فأن الانطباع عن (الفرات) انها صدرت لتأييد وزارة نوري السعيد التي كرست عملها لابرام المعاهدة العراقية البريطانية لسنة 1930. وبهذا اصبح الجواهري من المقربين لرأس الحكومة نوري السعيد، حتى انه كان يدخل على مجلس الوزراء وهو منعقد اضافة الى دخوله مكتب السعيد في اي وقت يشاء (الدجيلي ص64). ويذكر الجواهري في مذكراته ان نوري السعيد كان يساعد (الفرات) حتى بالاخبار، ومنها انه املى على الجواهري خبر قرب سفر الملك فيصل الى لندن للاشراف على المفاوضات، فقامت قيامه الصحف الاخرى باعتبار ان الملك غير مسؤول. ومن ذكريات الجواهري الطريفة انه دخل مرة على نوري السعيد رئيس الوزراء فأخذه معه في السيارة ليعود حسين أفنان ثم مر به على عبد المسيح وزير في وزارة الدفاع وأخذ بعض الاوراق منه واعطاها للجواهري، وكان من بينها خطاب لمزاحم الباجه جي منشور في جريدة بصرية سنة 1922، وقد ترجمه عبد المسيح وزير، وكان مضمون الخطاب ان العراق يجب ان يكون احد دول (الكومنولث)، وكان مزاحم الباجه جي يوم صدور الفرات يحمل راية المعارضة ضد حكومة نوري السعيد. ونشر الجواهري الخطاب فأحدث ضجة كبيرة في الوسط السياسي. وفي اليوم التالي جاء الباجه جي الى الجريدة ولم يجد الجواهري بل وجد محررها ابراهيم حلمي العمر، فسلمه ردا على ما نشرته الجريدة، فلم يكن من العمر الا وأخذ المقال الى نوري السعيد، وحين علم الجواهري بالأمس عنف ابراهيم العمر على تصرفه وذهب الى السعيد واخذ المقال منه ونشره عملا بحرية النشر. ومما له صلة بالأمر ان الملك فيصل الاول كتب صكا بمبلغ 700 روبية لبدل الاشتراك بالجريدة، كما امر نوري السعيد كافة المتصرفين بمساعدة الجريدة.

لم يصدر من (الفرات) سوى عشرين عددا ثم حكم عليه بالاغلاق لسبب ذكره الاستاذ الجواهري في ذكرياته فقال:

أما عدم استمرار (الفرات)فكان لأسباب يطول شرحها. وباختصار: فمع صدور الجريدة كانت المرة الأولى التي يتولى فيها رئاسة الوزارة نوري السعيد. وبالطبع كان لكل زعيم أشخاص يؤيدونه من طليعة الشباب المثقف. مثلا ياسين الهاشمي كان له جماعة من التقدميين يحتضنهم. وكذلك نوري السعيد. وقد نظمت له قصيدة تحت اسم «لتكن حازمة.. إنها وزارة المفاوضات”ولم يكن القصد منها مدح نوري السعيد، إنما حثه على العمل من أجل وطننا العراق.

وكان نوري السعيد مقربًا من الملك فيصل كثيرا. وما إن صدرت جريدتي حتى تبناها. لكن الجمهور اعتبرها جريدة الملك لكوني كنت في الديوان الملكي وباعتبار أن نوري السعيد يعد الرجل الأول بالنسبة إلى الملك فيصل الأول. ولعله كان كاتم أسرار الملك.

أثناء تلك الفترة، كانت هناك جريدة «الأفندي» (لعله يقصد جريدة حبزبوز لنوري ثابت وقد ناصبت الجواهري العداء) ممسوخة، هزلية ووظيفتها شتم الناس بطريقة مبتذلة وغير لائقة، فاعتبرت جريدتي حجر عثرة في طريقها. وللأمانة والتاريخ أقول إن أصحابها كانوا من بقايا عصابة ساطع الحصري في ذلك الوقت. وكانت كلما صدرت «الأفندي» وجدت فيها بعض الانتقادات الموجهة ضدي وموقعة باسم «حبزبوز”إلى أن طفح الكيل ولم أعد أحتمل، فكتبت مقالا ضد ساطع الحصري وعصابته لم أترك فيه سترا مغطى، فسبب كارثة رهيبة. وحتى الآن أعتبر المقال أحد أخطائي الرهيبة، إذ كان باستطاعتي يومها جعل نوري السعيد يمنع صدور «الأفندي» لكني فضلت الإجابة عبر «الفرات».

وقامت الدنيا ولم تقعد، واستغلت المقالة ضدي. وبدل أن أصطاد تلك العصابة اصطادتني، إذ بدأت الجرائد الموجودة تكيل إلي التهم يوميا.

وفي اليوم الثاني لنشري المقال، صدر قرار من مجمع الوزراء بإقفال جريدتي لأجل غير مسمى. إنه أحد أخطائي. يومها كتبت بلا حساب مقالا بعنوان «يا وزارة المعارف.. يا وزارة الحبابزة والقزامزة». وصحوت بعدما انقلبت الدنيا كلها ضدي.