فرقة المسرح الفني الحديث المدرسة التي تخرج منها نجوم المسرح العراقي

فرقة المسرح الفني الحديث المدرسة التي تخرج منها نجوم المسرح العراقي

سامي عبد الحميد

اذا اردنا ان نسرد تاريخ التمثيل في العراق خلال العقود الماضية فعلينا ان نتذكر فرقة المسرح الفني الحديث التي كانت مدرسة تخرج منها نجوم التمثيل في العراق.. ولهذا فانني اجد ان الحديث عن اي ممثل عراقي وقف على مسرح بغداد بدءا من الفنان يوسف العاني وليس انتهاء باللمثل التلقائي عبد الجبار عباس ومورورا بكتيبة الشباب التي اصبحت نجوم الفن العراق.. لا بد من سرد تاريخ هذه الفرقة العريقة وانجازاتها..

عام 1950 عندما دخلنا معهد الفنون الجميلة – فرع التمثيل، كان الاستاذ (ابراهيم جلال) يترأس الفرع والتف حوله عدد من الطلبة، في حين وقف ضده عدد اخر من مناصري استاذنا الراحل (حقي الشبلي) الذي نقل من المعهد الى التفتيش في وزارة المعارف (وزارة التربية حاليا).

اختلف (ابراهيم جلال) عن استاذه في ادارة فرع التمثيل وفي طريقة التدريس حيث اعطى هامشا من الحرية للطلبة سواء اثناء دروس التمثيل العملي ام في اخراج المسرحيات القصيرة وكان الشبلي لا يسمح لطلبته ان يخرجوا مسرحية، وحاول ابراهيم جلل ان يكسر القيود التي كان يضعها استاذه عن الطلبة ومنها منعهم من الاشتراك في نشاطات فنية او مسرحية خارج نطاق المعهد (كان الشبلي يخشى على طلبته ان ينحدروا الى المستويات المتدنية التي تقدمها عادة على مسارح الملاهي الليلية.

وبعد عام 1951م التحق الصديق يوسف العاني في المعهد وتوثقت علاقته بالاستاذ ابراهيم جلال مما دعا هذا الاخير الى اتخاذ قرار بنقل (يوسف العاني) من المرحلة الدراسية الاولى الى المرحلة الثالثة بادعاء ان العاني يمتلك مواهب وقدرات فريدة تؤهله لتلك الترقية، وقد ثارت ثائرتنا انا و الصديق (بدري حسون فريد) وكنا في المرحلة الثانية من الدراسة معتقدين كوننا لا نقل موهبة وكفاءة عن زميلنا العاني بيد ان اتهام السلطة للعاني كونه من مثيري الشغب في تحركاته السياسية وفي اعماله المسرحية ادى الى فصله من المعهد ومن ثم ابعاده هو ومجموعة من المثقفين (اليساريين على وجه الخصوص) الى المنصورية شمال مدينة بعقوبة حيث حجزوا في معسكر خاص قضوا فيه ما يقارب عاما كاملا، وكان الشاعر (مظفر النواب) من حملة المحتجزين حيث شعرنا انا ويوسف العاني وعدد اخر من طلبة المعهد بأن اعمالنا المسرحية التي يخرجها ابراهيم جلال في السنتين الاولى والثانية من دراستنا قد نالت استحسان جمهور غفير وخصوصا من المثقفين ومن تلك الاعمال كانت مسرحية (مسمار جحا) لـ (علي احمد باكثير) وهي مسرحية تندد بالاستعمار وحججه الواهية في البقاء واستلاب خبرات البلاد، اقول بعد ذلك النجاح تكونت لدينا فكرة تأسيس فرقة مسرحية تعمل خارج نطاق المعهد وبالفعل قمنا انا والصديق يوسف العاني بدفع استاذنا (ابراهيم جلال) لتأسيس الفرقة وكان قانون الفرق التمثيلية المعمول بها انذاك يسمح لشخص واحد ان يؤسس فرقة تمثيلية على ان تنتخب بعد التأسيس هيئة ادارية للفرقة.

استطاع (ابراهيم جلال) ان يحصل على إجازة تأسيس الفرقة (فرقة المسرح الحديث) وذلك في 3/ نيسان/ 1952م، وتشكلت ول هيئة إدارية للفرقة من: إبراهيم جلال (رئيسا) ويوسف العاني (سكرتيرا) وعبد الرحمن بهجت (محاسبا) ويعقوب الأمين (عضوا). علما أنني (سامي عبد الحميد) في الأشهر الأولى من التأسيس عن اني مع زملائي حيث ابتعدت عني بسبب خلافات حول الشؤون الإدارية والعضوية في الفرقة وبصراحة حول محاباة رئيس الفرقة لزميلنا (يوسف العاني). ولهذا فقد اتجهت الى المجموعة التي كان يقودها الراحل (جعفر السعدي) وعملت معهم في مسرحية (فلوس) التي اخرجها السعدي وقدمت في قاعة الملك فيصل (قاعة الشعب حاليا) بعد هذا جاءني وفد من اعضاء (فرقة المسرح الحديث) وبضمنهم (مجيد العزاوي) وسعدي محمد صالح، يطلبون مني الانتماء الى فرقتهم وعبروا عن حرص رئيس الفرقة وسكرتيرها على انضمامي اليهم وبالفعل فقد وافقت والتحقت بالمركب.

كان اول عمل مسرحي تقدمه الفرقة في مسرح صيفي على شاطيء نهر دجلة وفي حدائق نادي النداء الاجتماعي، مكونا من فصل من مسرحية (الطبيب رغما عنه) لموليير ومسرحية (عودة المهذب) ليوسف العاني وشهاب القصب، ومسرحية (ماكو شغل) للمؤلفين نفسيهما، كان ذلك في صيف عام 1952م.

كنا نلجأ الى النوادي والجمعيات الخيرية نتلقى منها الدعم والحماية من السلطة وفي عام 1953م كان المفروض ان تقدم الفرقة مسرحيتين ليوسف العاني وهما (موخوش عيشة) و(رأس الشليلة) وذلك في مسرح بنادي السكك الا ان السلطة انذاك منعت عرض المسرحيتين واعيدت اثمان التذاكر الى اصحابها بيد ان احدا من مقتني التذاكر لم ياتي يسترجع ثمن تذكرته وذلك دعما وتأييدا للفرقة وفي عام 1954م لم تحصل الفرقة على ترخيص لنص مسرحي بعنوان (هذا المجنون الفني) بالاشتراك مع عضو الفرقة سعدي محمد صالح، وبوقتها كان الاستاذ (حقي الشبلي) عضوا في لجنة فحص النصوص المسرحية مما دعاني الى التجاوز عليه وانا تلميذه بسبب ذلك المنع حيث حاججته بتوتر وهياج انا الان اسف عليه !

في عام 1955م التحق بالفرقة الاستاذ الراحل (جاسم العبودي) بعد عودته من البعثة الدراسية في امريكا وقام بأخراج مسرحيتين ليوسف العاني وهما: (تؤمر بيك) و(ماكو شغل) وقدمت المسرحيتان في قاعة الملك فيصل. ولاول مرة عرفنا العبودي بطريقة (ستانسلافسكي) في اعداد الدور وبناء الشخصية علما انتي كنت قد نشرت قبل ذلك سلسلة من ترجمة لكتاب (الفير ماجارشاك)، عن الطريقة في مجلة (السينما) لصاحبها السينمائي الراحل (كاميران حسني).

وفي عام 1956م اخرج ابراهيم جلال للفرقة مسرحية تشيخوف (اغنية التم) ومثلت فيها الدور الرئيسي ومعي (يوسف العاني) بدور الملقن، ذلك البرنامج اخرج ابراهيم جلال لـ (يوسف العاني) مسرحية (ست دراهم) ويذكر ان الفنان الراحل اسماعيل الشيخلي هو الذي صمم الديكور للمسرحيين وكان ديكور المسرحية الاولى واقعيا بينما كان ديكور المسرحية الثانية رمزيا.

وفي عام 1957م تصدرت للاخراج لادارة حينما تناولت مسرحية اناتول فرانس وترجمة (سليم بطي) (الرجل الذي تزوج امرأة خرساء) دور الرجل. وخلال ايام التمارين الاخيرة للمسرحية عرض فيلم (من المسؤول؟) اخراج: عبد الجبار ولي، وكنت انا و(ناهدة الرماح) نمثل في الفيلم دورين رئيسيين. وبعد حضوري افتتاح الفيلم قمت بكتابة نقد قاس للفيلم نشر في اليوم التالي في جريدة (الاخبار) لجبران ملكون، وفي تلك الايام كنت انشر نقدا للافلام السينمائية في تلك الصحيفة وقد اثار نقدي للفيلم استياء (ناهدة الرماح) مما دعاها الى عدم الحضور الى التمارين الاخيرة للمسرحية وكنا على وشك تقديمها ولم نجد وسيلة للرجاء الى ناهدة بالعدول عن مقاطعتها سوى اللجوء الى استاذنا (ابراهيم جلال) للتوسط في هذا الشأن وبوقتها كان (ابراهيم جلال) عن فرقته لخلافات حول امور مالية. وبالفعل فقد بادر ابراهيم لاقناع ناهدة بالعودة الى التمارين وقمت بتقديم اعتذاري لها وقدمت المسرحية بعد ثلاثة ايام من عودتها.

وفي نفس العام اصدرت السلطة الحاكمة امرا بسحب اجازة الفرقة وقد جاء من الامر مايلي: ان الفرقة تعرض الادعاءات التي تستهدف النيل من اوضاع البلاد السياسية والاجتماعية ولعدم مراعاتها لمقررات فحص النصوص التمثيلية ونظرا الى ان تصرفات هذه الفرقة مضرة بالمصلحة العامة ولانها تقدم في مسرحياتها كثيرا من المشاكل وتنبه الناس عليها وكثيرا ما تضع اللوم على الحكومة لانها المتسببة في افقار الشعب وحالته السيئة التي وصل اليها..... الخ، بيد ان الفرقة واصلت عرضها المسرحي في الكليات ومنها كلية الطب وكلية الهندسة وطب الاسنان.

بعد قيام الحكم الجمهوري عام 1958م حصل ابراهيم جلال على اجازة تأسيس الفرقة مجددا وذلك في 15/ 10/ 1958م وتشكلت هيئتها الادارية الجديدة من كل من: ابراهيم جلال (رئيسا) ويوسف العاني (سكرتيرا) وسامي عبد الحميد (محاسبا)، ومجيد العزاوي (عضوا)، عبد الحميد قاسم (عضوا). وكانت مسرحية العاني (اني امك يا شاكر) التي اخرجها (ابراهيم جلال) اول اعمال الفرقة في ذلك العهد الجديد وتعرض المسرحية لموضوعة ملاحقة السلطة للمواطنين من ابناء الشعب العراقي في نضالهم ضد الاستعمار.

وفي عام 1959م قدمت الفرقة مسرحية جيان (المقاتلون) اخرجها: سامي عبد الحميد وهي تتعرض للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وفي عام 1960م قدمت الفرقة مسرحية العاني (اهلا بالحياة) اخرجها (عبد الواحد طه)، وفيها تأمل المؤلف بحياة جديدة للشعب العراقي بعد قيام ثورة 14 تموز. وبوقتها قدمت مسرحية (اني امك يا شاكر) و(ست دراهم) في مدينة البصرة. وفي العام نفسه اخرج الراحل (بهنام ميخائيل) مسرحية المؤلف (كارجيالة) (رسالة مفقودة) وهي مسرحية رومانية تتعرض الى الانتخابات النيابية وما يحدث فيها من ممارسات سلبية وضغوط حزبية وسياسية وصادف ان حدثت مثل تل الضغوط في الانتخابات التي كانت الحكومة تريد اجرائها في البلاد انذاك.

في عام 1961م خطت الفرقة خطوة جريئة بتقديم مسرحية “ تشيخوف “ (الخال فانيا) اخرجها: عبد الواحد طه، كما قامت الفرقة بتقديم التمثيليات التلفزيونية والإذاعية.

وفي عام 1963م وبعد احداث 8/شباط، اصدرت السلطة التي ازاحت الراحل عبد الكريم قاسم، امرا بالغاء اجازات الفرق جميعا. كما اعتقلت (يوسف العاني) عضو الفرقة ومدير عام مؤسسة السينما والمسرح واخلت سبيله بعد توسطات قام بها اقاربه واصدقائه ومحبيه ومن ثم اضطر الى الهجرة خارج العراق ولجأ الى المانيا الشرقية ثم الى سورية قبل ان يعود الى بلده عام 1968م خلال مدة غياب العاني كنا نقدم مسرحياته بأسماء مستعارة وكنت اعمل مع مجموعة من طلبة وخريجي معهد الفنون الجميلة وتقدم تمثيليات تلفزيونية ومنهم (عبد المرسل الزيدي) و(سامي السراج) و(روميو يوسف). وكان الصديق (خليل شوقي) قد شكل مجموعته تقدم اعمالا تلفزيونية ايضا.

وفي عام 1965م اصدر قانون جديد لتأسيس الفرقة التمثيلية وبناءا عليه اتفق ابراهيم جلال وخليل شوقي على دمج اعضاء المجموعتين الحديث والفني بفرقة واحدة سميت بـ (فرقة المسرح الفني الحديث)، وكانت الهيئة الادارية للفرقة مكون من: ابراهيم جلال (رئيسا)، وخليل شوقي (سكرتيرا) وسامي تيلا (محاسبا)، وكريم عواد وفاروق فياض وفخري العقيدي (اعضاء). وكان اول عمل للتكوين الجديد هو (مسرحية في القصر) للمجري (مولنار)، اخرجها: محسن سعدون، وذلك عام 1966م وفي العام نفسه اخرج (ابراهيم جلال) مسرحية لـ (طه سالم) بعنوان (فوانيس) ومسرحية للمؤلف عادل كاظم (عقدة حمار)،وفي عام 1967م سافرت الفرقة الى الكويت بدعوة من فرقة الخليج العربي الكويتية وقدمت المسرحيتين، ومسرحية عبد الجبار ولي (مسألة شرف) اخرجها (بدري حسون فريد). وقد تأخر عرض المسرحيات الثلاثة اكثر من شهر بسبب عدم توفر بناية مسرح مناسبة.

وفي عام 1967م عاد (يوسف العاني) من غربته وقدمت له الفرقة مسرحية (صورة جديدة) اخرجها (سامي عبد الحميد)، وفي العام 1968م اخرج (سامي عبد الحميد) مسرحية العاني المبتكرة (المفتاح) التي اعتبرت نموذجا نوعيا من الكتابة للمسرح حيث اعتمد العاني في حكايتها على اهزوجة شعبية معروفة في جميع انحاء البلاد العربية ونقول:

يا خشيبة نودي نودي وديني على جدودي

وجدودي بطرف مكة ينطوني ثوب وكعكة

والكعكة وين اضمها؟ اضمها بالصندوق

والصندوق يريد مفتاح والمفتاح عند الحداد.... الخ

وهكذا تستمر الاهزوجة وقد بنى العاني احداث مسرحيته وشخوصها على مفردات تلك الاهزوجة ومن الجدير بالذكر ان الفنان (كاظم حيدر) هو الذي قام بتصميم ديكور المسرحية بأسلوب تجريدي وايحائي..... وقام الموسيقار (طارق حسون فريد) بتأليف الموسيقى والحان الاغاني للمسرحية، ولا بد أن نذكر بأن عرض المسرحية استمر لمدة شهر في بناية المسرح القومي القديمة وشاهدها جمهور غفير واثار العرض حفيظة موظفي دائرة السينما والمسرح انذاك من البعثيين والقوميين وحاولوا شتى الطرق ايقاف العرض.

وفي اوائل عام 1968م وبعد ان تعطلت اعمال معهد بغداد التجريبي الذي أسسه ابراهيم جلال وجاسم العبودي، وكلاهما ابتعد عن الفرقة وذلك بعد اعمار بناية مسرح بغداد. وكان سبب التعطيل خلافات دبت بين المؤسسيين، قام ابراهيم جلال بالاتصال بفرقة المسرح الفني الحديث وعرض عليها استئجار بناية مسرح بغداد التي عمرها وزودها بالمعدات، اجر اقارب ابراهيم جلال هو ضابط متقاعد اسمه (طارق الغزالي) وبالفعل تم للفرقة ذلك واصبح مسرح بغداد مقرا لها حتى أحداث آذار عام 2003م وما بعدها حيث تعرضت البناية الى غلق باب المسرح بالطابوق والاسمنت. ولم يبقي المخربون المعتدون من ممتلكات الفرقة وأثاث البناية شيئا الا واحرقوه او دمروه ومن ذلك ارشيف الفرقة والصور الفوتوغرافية لاعمالها. رغم النداءات التي وجهها اعضاء الفرقة وأصدقائهم وانصار الفرقة، الحكومة الجديدة لاعادة اعمار البناية كونها تمثل ذاكرة المسرح العراقي وتراثه وتخرج منها ابرز الفنانين المسرحيين العراقيين ومنهم (ابراهيم جلال) و(يوسف العاني) و(خليل شوقي) و(قاسم محمد) و(سامي عبد الحميد) و(فاضل خليل) و(صلاح القصب) و(جواد الاسدي) و(زينب) و(ناهدة الرماح) و(زكية خليفة) و(فوزية عارف) و(مي شوقي) و(ازادوهي صموئيل)..... الخ، الا ان تلك النداءات ذهبت ادراج الرياح.

قبل ان تقدم الفرقة اول مسرحياتها في مسرح بغداد قدمت عام 1969م مسرحية (النخلة والجيران) التي اعدها الراحل قاسم محمد، عن رواية الكاتب الراحل غائب طعمة فرمان بنفس العنوان، واخرجها ومثل فيها جميع اعضاء الفرقة، اضافة الى يوسف العاني وخليل شوقي وزينب وناهدة الرماح وزكية خليفة، حيث قدمت في بناية المسرح القومي القديمة واستمر عرضها الاكثر من شهر وكانت مثل تلك المدة للعرض المسرحي امرا لم يعتده المسرحيون ولا المتفرجون في العراق حيث لم تكن العروض المسرحية تتجاوز الايام القلائل.

في نهاية عام 1968م قدمت الفرقة اول مسرحياتها وهي (تموز يقرع الناقوس) من تأليف: عادل كاظم، واخراج: سامي عبد الحميد، واشترك جميع اعضاء الفرقة بالتمثيل ولاول مرة تقدم الفرقة عملا باللغة الفصحى ويحظى بإقبال جمهور واسع. وبعد ذلك توالت اعمال الفرقة المسرحية التي تقدم في مسرح بغداد ويحضرها جمهور من بغداد ومن المدن القريبة وخصوصا مدن الفرات الاوسط. وكان (ابراهيم جلال) قد ابتعد عن فرقته في هذه الفترة ولم يعد اليها الا عندما قام بإخراج المسرحية التي ترجمها واعدها فيصل الياسري بعنوان (رحلة الصحون الطائرة).

تناوب سامي عبد الحميد وقاسم محمد على اخراج مسرحيات (فرقة المسرح الفني الحديث) التي اتصفت بالتنوع في موضوعاتها التي تمس تطلعات الانسان المسحوق نحو مستقبل افضل، وبالتنوع في اسلوب بنائها واتجاهاتها الفنية فمن الواقعية امثال (الشريعة) و(الخان) و(خيط البريسم) الى الكلاسيكية مثل (تموز يقرع الناقوس) و(هاملت عربيا) الى الطليعية مثل (الرجل الذي صار كلبا) و(في انتظار كودو) والى الملحمية مثل (الخرابة) و(بغداد الازل بين الجد والهزل). وتنوعت كذلك في اسلوب كتابة حوارها من الفصحى العالية الى الفصحى المبسطة العالية.

استطاعت (فرقة المسرح الفني الحديث) ان تبلور جمهورا عريضا يجمع بين المثقفين والمتعلمين وعامة الناس ومن مختلف الافكار والمعتقدات وذلك بسبب المستوى الفكري المتقدم لاعمالها التي تضرب على االحس والوجدان الشعبي وبسبب المستوى الفني الرصين الذي لا يقل قيمة عن مستوى الاعمال المسرحية في الدول المتقدمة، وبسبب وسائله السهلة للوصول الى عقول وقلوب الجماهير. واصبحت الفرقة اقوى منافس لفرقة الدولة المسماة (الفرقة القومية للتمثيل) بل ان العديد من اعضاء الفرقة انتقلوا الى الفرقة القومية وذلك لكونه محترفة ويحصل العضو فيها على راتب شهري ومضمون، في حين ان عضو (فرقة المسرح الفني الحديث) لا يحصل الا على مورد قليل جراء مشاركته في العمل المسرحي. ومن الجدير بالذكر هنا ان الفرقة قد اعتادت ومنذ تاسيسها على اتباع نظام توزيع الحصص على العاملين من وارد الشباك بعد اقتطاع (25‌%) حصة الفرقة. وكان المؤلف يتقاضى (10 حصص) والمخرج (10 حصص) والممثل الاول(8 حصص) وهكذا تقاضى الحصص بحسب قيمة الجهد المبذول.

من اعضاء الفرقة البارزين الذين انتقلوا الى الفرقة القومية للتمثيل: (قاسم محمد) و(عبد الجبار كاظم) و(فوزية عارف) و(ازادوهي صموئيل) فيما انتمى للفرقة اعضاء جدد من المخرجين والممثلين ومنهم (عبد الامير شمخي) و(هيثم عبد الرزاق) و(حامد خضر) و(غانم حميد).

شاركت الفرقة في مهرجان دمشق في بدايات اقامته وذلك بمسرحية قاسم محمد (انا ضمير المتكلم) وشاركت الفرقة في الاسبوع الثقافي العراقي افي الجزائر بمسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل).

في الثمانينات والتسعينات من القرن لماضي اصبح (فاضل خليل) من ابرز مخرجي الفرقة حيث اخرج مسرحية (خيط البريسم) ليوسف العاني و(الباب القديم) لخليل شوقي، وظل (فاضل خليل) و(سامي عبد الحميد) يديرون الفرقة اضافة الى (يوسف العاني) الذي اصبح رئيسا لها بعد رحيل (ابراهيم جلال) وكانا عازمان على اعادة الحياة للفرقة بعد مجمل اعمالها بداية التسعينات وبداية الالفية الثانية وبعد التغيير الذي حدث وبالفعل فقد خططنا لبرنامج مسرحي متميز الا ان الاضطراب الامني الذي ساد البلاد وخصوصا مدينة بغداد حال دون تحقيق الامل في مواصلة الفرقة نشاطها حتى يومنا هذا.

وفي التسعينات قدمت الفرقة ثلاثة اعمال مسرحية قصيرة كتب نصوصها الاولية عبد الكريم السوداني وقام عدد من اعضاء الفرقة ومنهم (مظفر الطيب) و(حقي الشوك) و(احسان الخالدي) باشراف (سامي عبد الحميد) باعادة تأليف تلك النصوص وهي على التوالي (الى اشعار اخر) و(الكفالة) و(شكرا ساعي البريد)، كلها تتحدث عن تنكر المجتمع للقيم النبيلة واحلال ظواهر سلبية مكانها بفعل ظهور السلطة وآثار الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق. وكانت مسرحية (يهودي مالطا) لـ (مارلو) آخر مسرحية تمرن عليها اعضاء الفرقة ومن اخراج: سامي عبد الحميد، قد اكتملت ولكنها لم تعرض بسبب ما حدث للعراق عام 2003م.

ومن أهم الشخصيات التي زارت مسرح بغداد وشاهدت عروض فرقة المسرح الفني الحديث وعلقت عليها:

• الروائية غادة السمان: ذهبت الى مسرح العاني، وجدت هناك (فرقة المسرح الفتي الحديث) بمعاني الكلمة كلها.... والى حد بعيد.... وان حركة مسرحية صحيحة تقوم على اكتاف مجموعة من الشبان تتعاون والعاني على خلق مسرح عراقي عربي اصيل.

• المخرج السينمائي يوسف شاهين: خرجت برأي هو ان مسرحكم خير مما يجري الان في مسرحنا، الشيء المميز عندكم وبخاصة في مسرحية (نفوس) لفرقة المسرح الفني الحديث، ان هناك ضبطا جيدا في الاداء.

• المستشرقة السوفيتية ايرينا اندريفنا: تلقيت..... دعوة لزيارة مسرح بغداد وزرت في باديء الامر.... لاني تخوفت من عدم فهم المسرحيات الثلاثة اطلاقا..... الا ان الدقائق الاولى التي امضيتها في مشاهدتي المسرحية اجبرتني على طرح تلك الافكار جانبا وشدني شعور غامض الى متابعة احداث المسرحية شوق واهتمام بالغين !

• د. ساندرو كيرشبوتوني (ناقد من هنغاريا): في العراق شاهدت (النخلة والجيران).... اعجبني خاصة انها صورت الحياة الواقعية وليست الحياة المرسومة.

• الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي: كلما اسأت الظن بالمسرح العراقي ازاح عني هذا الشعور عرض مسرحي جاد لـ (فرقة المسرح الفني الحديث) ذات التاريخ العريق بالانجازات المسرحية المهمة التي تبقى ادانة للرداءة والسطحية وتبشيرا بما يجب ان يكون عليه المسرح العراقي الذي نريده.