حكايتي مع مسرح برشت

حكايتي مع مسرح برشت

يوسف العاني

في اوائل عام 1958 كنت اخطو خطواتي الاولى الى مسرح برشت (البرلينر انسامبل).. اقف امامه متهيبا حذرا، فلم اكن اعرف عنه شيئا ما خلا كلمات وآراء عابرة تكتب ضمن بحوث طويلة ومسهبة، بحيث يصبح الحديث عن (برشت) او مسرحه امرا ثانويا لا يهتم به ولا يلفت النظر اليه..

وكنت ارقب حماس المشاهدين في برلين وفي خارج برلين وهم يتحدثون عن برشت ومسرحه، والمس حماسهم الحار لمشاهدة مسرحياته، حتى انك تضيق احيانا لكثرة ما تحاول وتحاول حضور العرض المسرحي فلا يكون امامك مجالٌ.

كنت – رغم هذا التهيب- اندفع بحماس غريب من اجل ان اخترق هذا السور الفني الضخم، وان ادخل رحاب هذا المعبد الواسع الارجاء وان اضع خطوات جديدة تقودني الى التعرف على ملامح وابعاد مدرسة مسرحية معاصرة غيرت مفاهيم المسرح التقليدي وهزت المجتمع بعنف واتت من خلال رؤى برشت الجديدة، بمفاهيم اثارت اهتمام المسرحيين من جهة ومشاهدي المسرح من جهة اخرى. وبحثت عن السبيل. فلم يكن امامي الا شخصية واحدة.. هي الوحيدة التي تستطيع ان تزيل عني مخاوف الحذر والتهيب، ان ارادت ذلك وان اقتنعت بجدوى فضولي واهتمامي الحار هذا.. كانت (هيلينا فايكل) هي الوحيدة القادرة على ذلك، فقد كانت هي مسرح برشت بتاريخه وابعاده وقيمه المسرحية.. ولكن.. كيف السبيل الى (هيلينا فايكل) قد يستيطع المرء لقاء اي شخصية سياسية او اجتماعية في المانيا الديمقراطية بسهولة ويسر.. لكن (هيلينا فايكل) تعني شيئا آخر في المانيا الديمقراطية وتعني قيمة اخرى في المسرح الالماني..

ووقت هذه الفنانة ليس من الاتساع بحيث تستمع الى فضول من جاء يبحث عن مسرح لا يعرف عنه شيئا.. ومدرسة مسرحية لم يسبق له التعرف على اولياتها.. ولم يلفني اليأس.. حاولت وحاول معي المسؤولون الذين كانوا يعينونني على الاقتراب الطبيعي من مسرح (البرلينر انسامبل) وشاهدت اول مسرحية في هذا المسرح العتيد (خوف وبؤس الرايخ الثالث) وكان لـ (هيلينا فايكل) نصيب في هذه المسرحية حيث مثلت في لوحة واحدة من لوحات هذه المسرحية ولم يكن امام (هيلينا فايكل) الممثلة الا ان تجلس على كرسي، وتتحدث بالتلفون، ولم يكن بمقدوري الا ان اسحر كالمأخوذ امام الاداء الفذ الذي قدمته فايكل وكان علي ايضا ان امسح من ذهني كل ما تعلمته من اوليات التمثيل ومبادئ الاخراج الساذجة.. وان ازداد عزما واصرارا على لقاء هذه الفنانة الكبيرة..

اللقاء الاول

سألتني:

لماذا تريد التعرف على مسرح برشت؟

قلت:

– لانه مسرح تقدمي وجديد..

قالت:

وسياسي:

قلت:

– بالضبط.

قالت:

هل تمارس السياسة؟

قلت:

– السياسة جزء من حياتنا، والفن لابد وان يشمل كل مجالات الحياة.

قالت:

هيا لنتغدى. سأدعوك على غداء في مطعم المسرح.

لم أُصدق هذا اللقاء. كنت اخافه وكنت أُحاذر ان ينزلق لساني امام هذه السيدة الفنانة..

وكانت معاونتي في الترجمة اكثر تهيبا مني.. وعلى مائدة الغداء.. تحولت (هيلينا فايكل) الى (ام) مجرد ام.. عرفتني بأبنتها (بربارا) وقالت لي:

ماذا يعمل ابوك؟

قلت: متوفى.

قالت: وامك؟

قلت: متوفاة ايضا.

قالت: لا تهتم سأكون انا امك. الم تسمع بالام كوراج وابنائها السبعة.. ستكون الثامن.. وكن بعيدا عن احداث المسرحية، يجب ان تظل حيا لتنشط في مسرح بلادك..

ومنذ تلك الساعات.. اصبحت وكأنني من اسرة هذا المسرح، لقد منحت حق حضور (البروفات) ومنحت حق مقابلة المخرجين والشخصيات الفنية الاخرى والتحدث معهم. وعشت اياما سعيدة لا تعادلها ايام اخرى.. وكنت اركض لاهثا وراء الكثير الجديد الذي اراه، وابالغ في طرح الاسئلة الامر الذي كان يبدو احيانا ساذجا! امام الشخصيات الفنية التي التقي بها، وكانت (هيلينا فايكل) تدعوني الى الحماس اكثر واكثر، فأزداد اعجابا بها، وارى من خلالها كل تاريخ ونضال زوجها (برتولد برشت) ومسرحه الرائد، ذلك المسرح الذي تمخض عبر الصراع الطبقي في النضال الاول من القرن العشرين، والذي بلور فيه برشت طريقة في المسرح تثير عند المتفرج دوافع وقدرات على تغيير الواقع ولهذا السبب كان لابد من تغيير المسرح – كما تقول فايكل – فعندما بدأ البناء المادي والفكري للمسارح بعد اندحار الفاشية صاغ برشت مشاريعه الخاصة وطرح مسرحياته الكبيرة، والتي لم يكن بعضها قد تم عرضه.

لقد طرح برشت مبادئه الاساسية في المسرح على الصعيدين النظري والعملي، وبهذا انتقل – وفق تخطيط منظم ومدروس – الى المرحلة المهمة، مرحلة التطبيق، متخذا من فرقته ومسرحها، وبمعاونة شريكة حياته (هيلينا فايكل) مصنعا فنيا لممارسة تجاربه وتطبيق نظرياته وبلورة خبراته في ظروف اجتماعية ناضل هو وزوجته وفرقته المسرحية من اجل ارسائها. لقد دعا برشت الى تطوير فنين: (فن التمثيل) و(فن المشاهدة) ففي مسرحه الملحمي الذي بلوره في نهاية العشرينات، عمد برشت الى (التغريب) تغريب العمل المسرحي، ليتخذ موقفا نقديا وايجابيا من قبل الممثلين والمشاهدين. فهدف (التغريب) هو تمكين المشاهد من ممارسة النقد المثمر وفق موقف اجتماعي.. ولكي يتوفر التغريب كما يقول برشت: (يجب على الممثل ان يرفض الوسائل التي يمثلها الممثل.. وعلى الممثل في هذه الحالة الا يقع هو كذلك في غيبوبة الشخصية التي يقوم بتمثيلها(.

والتغريب لا يثير النقد الايجابي في ذهن ونفس المشاهد الا عن طريق دقة الملاحظة والاتقان العالي، عند ذاك فقط يتحول التغريب الى عملية فنية والى ينبوع للسرور. فالتعليم في المسرح ممكن حيث تكون التسلية ممكنة.

يجب ان يثير المسرح الرغبة في نفوس المشاهدين ليتعرفوا على الواقع من دون حاجة الى تقديم صور كثيرة عنه. على المسرح توفير متعة الاحساس بتغيير هذا الواقع. ويجب الا يكتفي المشاهدون بمجرد التفرج على مشهد (تحرير بروميثوس) من اغلاله، بل ان يحسوا بالرغبة في تحريره!

كانت (هيلينا فايكل) متحمسة لأفكار برشت، هي صدى هذه الافكار وامتداد لها.. بل كانت تحرص عليها الى حد التفاني من اجلها. فقد تعرفت على برشت منذ عام (1924 – 1925) حين عملت في المسرح الالماني ببرلين وقامت بتمثيل دور (ليوكوديا بيكبيك) في مسرحية (الرجل رجل) لبرشت عام 1927 وهو اول دور لها في مسرحية من مسرحيات برشت.. ثم تزوجت منه عام 1929.

ولدت (هيلينا فايكل) في 12/5/1900 في مدينة فيينا. وقد درست في المدرسة الابتدائية منذ عام 1907.. انهت الدراسة الثانوية عام 1918 حيث التحقت بمعهد التمثيل في العام نفسه بالرغم من معارضة والديها الشديدة لرغبتها هذه، وتتلمذت على يد الاستاذ (آرثو هولتس) انتقلت بعد ذلك الى فرانكفورت حيث التحقت بالمسرح الحديث الذي كان يديره (آرثر هيلمر(..

وقامت هناك بتمثيل العديد من الادوار كان اهمها دور (ماريا) في مسرحية (فويزيك) تأليف (جورج بوشنر) واخراج (آرثر هيلمر). وفي عام 1922 انتقلت الى برلين.. ومسارح اخرى حتى استقرت في عام 1925 في المسرح الألماني.

كانت رفقة (هيلينا فايكل) لزوجها (برتولد برشت) رفقة نضال مرير وطويل، ففي شباط عام 1933 هاجرت معه الى براغ ومنها الى فيينا، ثم باريس فسويسرا، وبعدها الى الدنمارك. وفي خريف عام 1933 سافرا الى موسكو. وفي عام 1939 انتقلا الى ستوكهولم ثم فنلندا. وفي عام 1941 قاما برحلة خلال الاتحاد السوفياتي.. ثم قاما برحلة الى امريكا.. كانت (هيلينا فايكل) تقوم باعطاء دروس خاصة في التمثيل هناك.. وفي عام 1947 انتقلا الى باريس ثم سويسرا ثم عادا عام 1948 الى برلين.. وفي شهر ايلول عام 1949 تم افتتاح مسرح (برلينر انسامبل) بأدارة (هيلينا فايكل) وكان (برتولد برشت) المدير الفني للمسرح.

اللقاء الثاني

قالت:

قبل عشر سنوات كنت هنا إذاً!

قلت:

– نعم:

قالت:

انا اتذكر هذا اللقاء ولكنني كما ترى قد كبرت. وانت؟ ماذا تقدم لأبناء بلدك؟

قلت:

– كل عطاء اعتقده خيرا وجيدا.

قالت:

وما رأيك بهذا الاحتفال؟

قلت:

– انه رائع. وقد اعاد الي حديثا قصيرا جرى بيني وبينك عن مسرح برشت السياسي.

قالت:

طبعا انه مسرح سياسي، واحتفالنا تحت شعار السياسة في مسرح برشت. كان هذا اللقاء في العاشر من شباط عام 1968.. في الاحتفال الذي جرى ببرلين بمناسبة مرور سبعين عاما على ولادة الكاتب المسرحي (برتولد برشت(.

في ذلك اليوم قدم مسرح (البرلينر انسامبل) مسرحية (الأم) المقتبسة عن قصة مكسيم غوركي المعروفة، وقد اعاد برشت كتابتها عام 1932.. وقدمها لأول مرة عام 1933.. ثم منعت وظلت تقدم قراءة في حلقات شبه سرية.

تدور احداث (الأم) عند غوركي بين عام 1901 وعام 1905 بينما تدور احداث مسرحية برشت بين عام 1901 و1917..

كتب غوركي قصته قبل ثورة اكتوبر وكتب برشت مسرحيته بعد الثورة بخمسة عشر عاما. فالنظرة تختلف والوضع الاجتماعي كان قد تغير في الاتحاد السوفييتي.

اعتمد برشت في المسرحية على التطور الفكري عند (الأم) مختصرا مدة التحول هذه ومجتازا احداثا كثيرة من خلال اغاني المجموعة التي تقدم بين المشاهدين.

عرض مسرحية (الأم) كان تكريما فنيا لأسرة برشت نفسها فقد مثلت دور البطولة فيها (هيلينا فايكل) وشاركتها (بربارا) بنت برشت وبنتها.

قلت لـ (هيلينا فايكل):

– لقد صفق الجمهور لك طيلة عشر دقائق ولا اعتقد ان مسرحية اخرى او موقفا كهذا الموقف او ممثلة مثلك قوبلت بهذه الحفاوة في ليلة ميلاد زوجك الفنان العظيم (برتولد برشت).

قالت:

– لقد بكيت وانا اخرج للجمهور اكثر من عشر مرات. لم اتعود البكاء حين يصفق لي الجمهور. هذه المرة بكيت، تمنيت ان يكون برشت معي!

لقد شاركت (هيلينا فايكل) برشت كفاحه ونضاله الطويلين وشاركته عطاءه المسرحي الثر.. لقد مثلت له اكثر من مسرحية ومسرحية، فمن ادوارها:

– احد المحرضين في مسرحية (الاقدام على عمل)، اخراج (سلاتان دودوف)، عام 1930.

(بيلاجيه فلاسوفا) في مسرحية (الأم)، اخراج (ايميل يوري)، عام 1932.

) السيدة لوكريندل) في مسرحية (القديسة يوحنا)، اخراج الفريد براون، عام 1932.

(تيريزا جرار) في مسرحية (بنادق الام جرار)، اخراج (سلاتان دودوف) حيث قدمت الى مجموعة من المهاجرين الالمان في باريس عام 1937.

(يوديت كــــــايت) في مسرحية (بؤس وشقاء الرايخ الثالث)، اخراج (سلاتان دودوف) ايضا، عام 1938.

(انتيجونا) في مسرحية (انتيجونا)، اخراج (برتولد برشت وكاسبار ينهير)، عام 1949 في سويسرا.

(آنا فيرلنج) في مسرحية (الام الشجاعة واطفالها)، اخراج (برتولد برشت وايريش اينجل)، عام 1949.

) بيلاجيه فلاسوفا) في مسرحة (دائرة الطباشير القوقازية) اخراج (برتولد برشت).

(مدام سوبيه) في مسرحية (قصة سيمون مارشارد)، اخراج (مانغريد كارغه)، عام 1968.

(فولومينا) في مسرحية (كوريولان) المقتبسة عن شكسبير، اخراج (مانغريد فيكفرت).

وقد مثلت (هيلينا فايكل) مسرحيات كثيرة لكتاب مسرحيين آخرين، لكنها ظلت في كل اعمالها تؤمن ايمانا عميقا بروح برشت الفنية وبالاسس المتينة التي ثبتها برشت في مسرحه كمنطلق واضح لكل عمل يقدمه مسرح (البرلينر انسامبل). وكانت (هيلينا فايكل) تحرص على برشت ومدرسته الى درجة التزمت والكفاح المرير ضد من يحاول الخروج عليها. ومن هنا جاء موقف عدد من الشباب العاملين في مسرحها، موقف الراغب في تطوير بعض ما جاء به برشت.. وكانت (هيلينا فايكل) تعتبر ذلك انحرافا منهم، بينما كانوا يعتبرون موقفها منهم جمودا، ويرون في سياستها تقوقعا سيؤدي بالتالي الى تحويل تراث برشت ومسرحياته الى (متحف) مسرحي لا اقل ولا اكثر.. ودارت نقاشات طويلة، وطرحت آراء كثيرة ساهمت (هيلينا فايكل) فيها، لكن الامر ظل قيد المنــــــاقشات الايجابية البناءه. فكل ما يطور مسرح برشت ويغنيه هدف لا يمكن لـ (هيلينا فايكل) ان تقف في وجهه فهي ان حرصت على برشت ومدرسته، فأنها تحرص على جزء كبير من حياتها المسرحية معه.. عبر سنـــــــــوات طوال بدأت عام 1924 وانتهت عام 1956 حين فارق برشت الحياة.. ثم واصلت مع فرقته مســــــــيرة برشت حتى فارقتها الحياة في السادس من شهر ايار عام 1971.. حيث فقد المســــــــــرح العالمي اكبر ممثلة فيه، وفقد المســــــــــرح الالماني فنانة عبقرية واما طالمــــــــا ابكت واضحـكت اكثر من جيل وجيل.

عن مجلة الفنون المسرحية 2016