من مفارقات تاريخنا السياسي..كيف عزل الباججي عن مجلس الاعيان سنة 1950؟

من مفارقات تاريخنا السياسي..كيف عزل الباججي عن مجلس الاعيان سنة 1950؟

د. فهد أمسلم زغير

ظل الوصي عبدالاله يكن لمزاحم الباجه جي كرهاً، وكان الأخير يعرف كره الوصي له، وجاء توقيع (اتفاق الكرام) ليزيد من توتر العلاقة بينهما، الامر الذي استغله بعض المؤيدين للوصي عبدالاله في اثارة عدم دستورية تعيين مزاحم الباجه جي عضواً في مجلس الاعيان، ونجحوا في الغاء عضويته منه في العاشر من نيسان 1950، وصدرت الارادة الملكية بذلك بعد يوم واحد من اتخاذ المحكمة العليا قرارها حول هذا الموضوع.

حينما تسنم مزاحم الباجه جي منصبه رئيساً للوزراء أخبر الوصي عبدالاله بانه من الافضل ان يصبح عضواً في مجلس الأمة، واقترح على الوصي ان يتم تعيينه عضواً في مجلس الاعيان لانه لم يسبق في الماضي ان بقي رئيس وزراء خارج المجلس خلال توليه الحكم، فوافق الوصي على هذا المقترح

لم يكن مزاحم الباجه جي نائباً أو عيناً عندما شكل وزارته الأولى في السادس والعشرين من حزيران 1948، ولكن بعد اسبوع من تبوأه منصبه بعث السكرتير العام لديوان مجلس الوزراء بارادة ملكية بتعيين مزاحم الباجه جي عضواً في مجلس الاعيان لتقترن بمصادقة هيأة النيابة التي كانت تتألف من السيد محمد الصدر وجميل المدفعي ونصرت الفارسي لان الوصي كان خارج العراق، فأعيدت الارادة الملكية من دون توقيع، فارسلها مزاحم الباجه جي رئيس الوزراء الى الوصي عبدالاله الذي كان في فلسطين، فوقع عليها في الحادي عشر من تموز، ولما عاد الوصي الى بغداد بعد انتهاء زيارته من فلسطين، تقدم مزاحم الباجه جي بارادة ثانية لتثبيت عينيته، فلم ير الوصي داعياً لذلك لان الارادة الملكية التي وقعها وهو في فلسطين كافية لعده عضواً في مجلس الاعيان، واكد الوصي لمزاحم الباجه جي اذا ظهرت في المستقبل ضرورة لاستصدار إرادة ثانية، فانه سوف لن يتأخر عن توقيعها، فاطمأن مزاحم الباجه جي لذلك، وعد الأمر بالنسبة له منتهياً.

وطوال الفترة التي تسنم فيها نوري السعيد وزارته العاشرة في السادس من كانون الثاني حتى العاشر من كانون الأول 1949، واعقبه علي جودت الايوبي الذي استمرت وزارته حتى الاول من شباط (1950)، لحين مجيء الوزارة السويدية الثالثة في الخامس من شباط 1950، لم يعترض أحد على عينية مزاحم الباجه جي أو يشكك بها، واسهم مزاحم الباجه جي بمناقشات مجلس الاعيان وابدى رأيه في القضايا التي كانت تطرح عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما عرضت لائحة قانون ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العرقية رقم (62) لعام 1933 أكد مزاحم الباجه جي في جلسة السادس عشر من شباط 1950 إن هذه اللائحة « تسهل لشرذمة استهترت بقوانين البلاد وارغمت الحكومة على تحقيق رغباتها «، وخاطب زملاءه قائلاً « انتم بلا شك تعلمون التأثير السيء الذي تحدثه مثل هذه السياسة في العراق وفي البلاد العربية. وجاء كلام مزاحم الباجه جي منسجماً مع ما توصل اليه تقرير مجلس الاعيان الذي اكد على التأثيرات السياسية والاقتصادية لاسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين الذين هربوا مبالغ كبيرة من العراق الى الخارج، وما ادت اليه هجرتهم من خلل اقتصادي داخل العراق لدورهم في تسيير هذا الجانب المهم.

أثيرت قضية الغاء عينية مزاحم الباجه جي اثر القاءه خطبته المطولة على المنهاج الوزاري الذي تقدمت به وزارة توفيق السويدي الثالثة بعد عشرين يوماً من تشكيلها، فهاجم الوصي عبدالاله دون ان يسميه بالاسم قائلاً « كلكم تعلمون ان الظروف، والظروف مع الاسف قاسية، خلقت اناساً لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة يسيرون أمور الدولة بوسائل غريبة، واشكال عجيبة، فهم يلتجئون الى اساليب تيمورطاشية(نسبة الى وزير البلاط الايراني)، مع اننا نعلم ان هذه الاساليب التيمورطاشية قد ذهبت، وقضت عليها الظروف، وذهبت بدون رجعة، وقضت على تيمورطاش تلاحقه اللعنات على الدوام، وكلنا نعلم، ولكن مع الاسف نخشى ان نبوح بالحقيقة، وهي ان في العراق اناساً محدودين، يسيرون أمور الدولة حسب رغباتهم الشخصية، وذلك بالتجائهم لاساليب عجيبة غريبة في هذه الدولة.

لم يكن بامكان الوصي عبدالاله ان يتقبل من مزاحم الباجه جي مثل هذا الكلام القاسي بحق سياسته، وعده طعناً بتصرفات رئيس ديوانه احمد مختار بابان، وجرأة غير مسبوقة لعين تجرأ وقال مثل هذا الكلام، فاضحى من الضروري معاقبته على كلامه هذا، فتم اثارة قضية عدم دستورية عينيته من قبل المؤيدين للوصي التي « تجاهلتها وزارتان متعاقبتان، بعد استقالة وزارته، فلم تظهر الا في عهد هذه الوزارة، بعد ان برزت معارضة الباجه جي للعيان باجلى صورها.

تبنى هذا الموضوع بشكل اساس صالح جبر وزير الداخلية في جلسة مجلس النواب التي عقدت في الثامن والعشرين من آذار 1950 عندما طرح النائب محمد جواد حيدر سؤالاً حول عدم دستورية تعيين مزاحم الباجه جي عضواً في مجلس الاعيان، فرد عليه وكيل رئيس الوزراء صالح جبر بانه ليس في استطاعة الحكومة ان تبت في الامر، وليس لها الا « ان تحيل الأمر الى المحكمة العليا التي من اختصاصها النظر في أمر كهذا، وللمحكمة العليا النظر فيه، والبت فيه على ضوء احكام الدستور وحسب مقتضياته».

وبالفعل عرض موضوع عينية مزاحم الباجه جي على المحكمة العليا للبت في دستورية هذا التعيين، ونظرت المحكمة في السؤال الموجه اليها من مجلس الوزراء المتعلق بمدى حق الملك في ممارسة صلاحياته الدستورية وهو في خارج حدود العراق، وجاء قرارها في الجلسة الخاصة التي عقدتها في العاشر من نيسان 1950 ليتضمن عدم دستورية هذا الحق بموجب المادة الثالثة والعشرين من القانون الاساسي العراقي لان ممارستها تصبح من اختصاص النائب عنه أو هيأة النيابة. وعقب ذلك بيوم صدرت ارادة ملكية تضمنت الغاء الارادة الملكية السابقة المتضمنة تعيين مزاحم الباجه جي عضواً في مجلس الاعيان، وهكذا انهيت عينية مزاحم الباجه جي.

أثارت قضية انهاء عينية مزاحم الباجه جي من مجلس الاعيان ردود فعل مختلفة، فرأى البعض من السياسيين المعارضين للوصي عبدالاله والمؤيدين لسياسته في العراق، ان التحيز كان ظاهراً في الشكل الذي اثيرت به هذه القضية، اذ انها لم تقدم الى المحكمة العليا كقضية موضوعية في سبيل تقرير مبدأ ثابت لتفسير ناحية دستورية « وانما قدمت كقضية شخصية، الأمر الذي ترتب عليه نتائج مختلفة لقضايا مماثلة «، في حين رأى اكثر غرماء الباجه جي ان انهاء عينية مزاحم الباجه جي على هذه الصورة، كان بمثابة عقوبة له على تصريحاته، اكثر من ان يكون الانهاء «تدبيراً أو تصحيحاً لخطأ دستوري، كما ادعته الحكومة في حينه « على حد ما ذكره توفيق السويدي الذي يعد واحداً من ألمع الشخصيات القانونية في العراق.

عن رسالة: مزاحم الباجه جي ودوره في السياسة العراقية