مكتبة الكرملي وكيف انتقلت  الى وزارة المعارف؟

مكتبة الكرملي وكيف انتقلت الى وزارة المعارف؟

د. وداد نجم الدوغرجي

اشتهرت مكتبة الاب انستاس ماري الكرملي في دير الاباء الكرملين ببغداد بانها اعظم خزائن العراق خاصة، واوسعها نطاقا، وكانت عامرة بالكتب المطبوعة والمخطوطات النادرة، إذ تحوي مراجع المصادر الغربية القديمة واللغة والادب والتاريخ، والبلدان، والتراجم، وغيرها من الموضوعات العربية والاجنبية مما انفردت به، فقد جمع كل ما وصلت اليه يده من كتب خطية ومطبوعة انتجتها مطابع الغرب والشرق، وبناء على ذلك قسم «الكرملي» مكتبته على قسمين.

اولهما: خزانة الكتب الشرقية: حوت (1100) احد عشر الف كتابا و(27053) سبعة وعشرين الف وثلاثة وخمسين تصنيفا خطيا مؤلفا لمختلف علماء العالم يقصدها طالبو العلم والعلماء من ديار قاصية ودانية، نخص منهم علماء النجف وكربلاء، والكاظمية، والاعظمية، والبصرة، والمانيا، وايطاليا، وفرنسا.

ثانيهما: خزانة الكتب الغربية: حوت على اكثر من (8000) ثمانية الاف مجلد فضلا عن المؤلفات الخطية التاريخية الشرقية، لاسيما – ما كان فيها يبحث عن العراق عامة، وبغداد خاصة من خرائط ورسوم وصور والواح حسنة النقش والطبع.

عني “الكرملي” بمكتبته، فجعلها اكبر مرجع للعلم والعلماء ومضمونها متاح لكل من يريد الافادة منها، على ان إخراج الكتب لم يكن مباحا، فمراجعتها تتم عادة داخل الدير، إذ اقبل على اقتناء كتبه بيد مبسوطة، دون تردد، فكانت له وللاجيال خير عون على البحث والتحقيق والتأليف وجمع من اجلها النقود الفضية والذهبية، وكان لا يقبل من المكتبات المقتنية لكتبه الا باوراق النقد الجديدة.

حرص كل الحرص على ما يقتنيه من الكتب حتى انه كان لا يفرط في إعارة كتاب واحد لمن يطلبه منه على الرغم من تشجيعه على المطالعة والتعلم، لندرة الكتب التي تضمها مكتبته ولأهميتها ونذكر ان “الكرملي” كان يملك نسخة من مخطوط معجم العين واراد احد تلاميذه ان يطلع عليه ليعده الى الطباعة فاجابه برسالة يقول فيها: “اني لاشجعك على عزمك طبع العين، لكنك لم تر نسختي فقد صرفت عليها اكثر من خمسمائة دينار. . ان اهبك هذا فهو مستحيل، بل ظلم، بل سرقة، بل اثم عظيم. . هنالك معاجم اخرى، اما عيني فيبقى كعيني».

نفى العثمانيون “الكرملي” واحتلوا دير الاباء الكرمليين عام 1917 م، فكانوا اذا اشتد بهم البرد فعمدوا الى بعض الكتب في الخزانة، فاحرقوها، واصطلوا بنارها، ثم نهب منها ما سلم من النار، اما الجزء المتبقي حفظ بجهد الاباء الكرمليين اذ اودعت في صندوق حديدي ووضعت في باطن الارض.

وعندما عاد “الكرملي” من المنفى، بدأ يجمع الكتب من سارقيها بقوة السلطة البريطانية فتجول مع البريطانيين في الازقة، والشوارع مستعينا بالاهالي ليمكنوه من اعادة كتبه المسروقة، وبدأ يجمع الكتب من جديد اما هدية، او مبادلة، او شراء جامعا نقودها من المبالغ التي يحصل عليها من مقالاته التي ينشرها وظل يسعى لاستعادة نماذج من الكتب التي فقدت وتجديد ونماذج اخرى التي ضمتها خمس غرف من الطابق الثاني لدير الاباء الكرمليين.

وتلقى في احدى رسائله تعزية واسفاً لما حل بمكتبته، ولتخفيف وقع المصيبة عرض عليه مد يد العون لارجاعها الى سابق ازدهارها ولكي يسترجع مكانة مكتبته من جديد كمرجع لأهل العلم.

جمع الكرملي رسائلة التي كانت تصله يوميا من المستشرقين والعلماء العرب والاجانب واساتذته وتلاميذه في احدى زوايا مكتبته على شكل تل مكدس، ولما راها تلميذاه (كوركيس عواد) و(ميخائيل عواد) اقترحا عليه اخذها من اجل تبويبها وترتيبها وارشفتها، فوافق الكرملي على ذلك، واستمرا في عملهما ذلك زهاء السنة ونسقت على اساس ان لكل مرسل ملفاً خاصاً به وبعد اتمام العمل ارجع التلميذان.

الرسائل الى “الكرملي”، إلا انه لم يستلم رسائله منهما وقام بتحرير ورقة واهبا بطيب خاطر ذلك الركن من مكتبته الذي يحوي الاف الرسائل اليهما، وبعد وفاة صاحبها عمل التلميذان على نقل تلك الرسائل وايداعها في مكتبة المتحف العراقي كجزء من الوفاء له.

اعتاد “الكرملي” في مجلسه الاسبوعي، مجلس الجمعة، على ان يضع ما يتوارد اليه من الكتب والمجلات على منضدة كبيرة يلتف حولها الحاضرون للاطلاع عليها ومطلعا زائريه على الكتب المطبوعة والمخطوطة التي وردت الى خزانته حديثا، ثم يقرا بعضهم مقالة او يتلو قصيدة، فتناقش وتنتقد ويحمى النقاش والجدال في ذلك الموضوع، ويغلب الغضب عليهم، فيسرع “الكرملي” الى اصلاح ذات البين بين المتجادلين، ويكون له الحكم القاطع، والقول الفصل باحضار كتاب من مكتبته، ثم يؤيده بكتاب ثان، وثالث. . . ، دون ضجر او ملل، حتى ينهي الموضوع المختلف فيه، يدوم الاجتماع الفكري حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، بعد ان يدق ناقوس الكنيسة يدرك المجتمعون انه وقت الطعام للرهبان، فينصرف الحاضرون وتنتهي الجلسة

توفي “الكرملي” واخذت التساؤلات تظهر عن مصير تلك الخزانة التي كانت بغداد تتباهى بها من بين سائر خزائن الكتب في العراق والبلاد المجاورة، فارتأى الدير الاستئناس باراء ببعض اصدقاء الفقيد في ذلك الشأن، فاجمعوا على تهيئتها بالوسائل اللازمة لكي تنطبق عليها متطلبات المكتبة العامة من ثم اعادة فتحها، لكن الدير كان حينذاك في وضع مالي لا يساعده على تحقيق ذلك المقترح.

اقفلت المكتبة مدة غير قصيرة، فاقام ذووه (براتراند ماريني) ابن اخيه دعوى من اجل الحصول على مكتبة الفقيد لانه الوريث الشرعي لعمه، وكانت النتيجة ان اسقطت الدعوى وردت، بسبب عدم وجود سند لها وأن المتوفى راهب ومن شروط الرهبنة الفقر، فالرهبان لا يملكون شيئا وكل ما تحت ايديهم في حياتهم وبعد مماتهم يخص الدير والكنيسة، فضلا عن ان “الكرملي” كان قد وضع وصيته قبل ثلاث سنين من وفاته يهب فيها كل يملك ومن ضمن ذلك مكتبته الى الدير الذي عاش فيه والكنيسة الكرملية.

فضل الدير ان يحقق ذلك المقترح ويجعل المكتبة عامة من جهة ويرفع عن كاهله نفقات ذلك الاقتراح من جهة اخرى، فاهدى المكتبة فيما بعد – الى وزارة المعارف في عام 1949م، اذ بلغ حجم الهدية (7335) سبعة الالاف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين اثراً، منها (1335) الف وثلاثمائة وخمسة وثلاثون من المخطوطات التي تخص التاريخ والادب والطب والصيدلة، و(6000) ستمائة الف مطبوع متنوع، وزعت بين مكتبتي المتحف العراقي ومتحف الموصل، واحتفظ الدير بالكتب الدينية والنصرانية والاجنبية، والمخطوطات القديمة، والمؤلفات الخطية الشخصية “للكرملي” لاسيما معجم المساعد.

عن رسالة (الكرملي صحفيا)