من حديث الذكريات في رحاب الصحافة

من حديث الذكريات في رحاب الصحافة

ألفريد سمعان

تظل العلاقة بين الادباء والصحافة ازلية لا يمكن ان تنفصل او تتباعد وقد يصيبها بعض الذبول او تتعرض لفرقة ربما تكون محسوبة خلال الظروف العسيرة او ضعف الدعم المادي او الزام الصحافة بالصمت والغياب لاسباب سياسية او ادارية او اية احتمالات اخرى،

وليس هناك غرابة في هذا الارتباط الودي الحميم بين الادب والصحافة لسبب واضح هو حرص الاديب على نشر انتاجه مزهوا لكي يرضي القراء اولا ولاثبات وجوده في عالم محدود المساحة جزيل العطاء ينثر الافكار ويتابع المعارك ويلامس الشفاه ويتبادل النظرات الحنون مع الحروف السائبة او القاتمة على سطور لا تستقر وهي تعتبر مضطجعا?للافكار التي تغط في عوالم الهدوء والصمت الناضج.

في البدء ارسلت قصائدي الاولى لتنشر في مجلة «الصباح» المصرية ومن ثم الى جريدة «الاديب» الموصلية ثم الى مجلة « النادي» التي كان رئيسا لتحريرها الشاعر العسكري نعمان ماهر الكنعاني وكانت بعنوان « تساؤل». انها بداية الحلم كيف ندخل اروقة هذا العالم الساحر، كيف نطرح افكارنا ونفرش رغباتنا ونصافح الأيدي التي ربما نالها التعب وبعض الاحباط والابتعاد لاسباب سياسية او حماية لاقلام ملاحقة، او الهرب من مطاردة البنادق الامنية وسياط الكلمات العاتبة.

كانت محلة جديد حسن باشا التي يقع تحت ظلالها شارع المتنبي وأزقة لا تدخلها السيارات تنتشر فيها عشرات المطابع المتنوعة الاحجام والمناشئ ومخازن الورق، وكافة مستلزمات الطبع والتنضيد والتجميع وسواها من المسميات، وقد تجمعت فيها مقرات الصحف المختلفة الاتجاهات والآراء.

جريدة « الرأي العام» للجواهري في زقاق ضيق بجوار جامع الحيدر خانة، « البلاد» لـ روفائيل بطي و»الزمان» للسمعاني قرب الاعدادية المركزية و»الاخبار» لجبران ملكون و «الاهالي» للجادرجي الكبير قرب الاعدادية ومجلس النواب، وجريدة « العصور» لسليم طه التكريتي ومجلة «الوادي» تطل على ساحة الرصافي وجريدة «الوطن» لحزب الشعب/ عزيز شريف وكانت هنالك تجمعات الادباء في المقاهي المجاورة: مقهى البرلمان ومقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي.

كنا نتجول في هذه الازقة نلتقي يعضنا وندس انوفنا في مقرات الصحف ونسعى الى ان تكون لنا كلمة تنشر او قصيدة ونتطوع لمساعدة اصدقائنا العاملين في هذه الصحف مجاناً. هنا مجيد الونداوي والبراك وهناك منير رزوق وسجاد الغازي وفي الرياضة شاكر اسماعيل وعبد الخالق مال الله في جريدة الاستقلال وألفريد سمعان في قرندل وصوت الاحرار. وكانت هنالك صحافة من نوع آخر وهي صحافة النضال، صحيفة الحزب الشيوعي التي كانت تختلف عن تلك الصحف فهي مطبوعة بجهاز الرونيو على ورق (أي فور)، وغالبا ما تكون رديئة ولكنها مقروءة وغنية بأفكارها وعطائها وتحليلاتها وكانت توزع سرا ويجري تبادلها عن طريق الرفاق، وتخافها السلطة كما كان من يقتنيها يخشى وقوعه بيد الشرطة وهي في أحد جيوبه. وكانت في بعض الاوقات تكتب على ورق خفيف وتستنسخ باليد وباستعمال الكاربون مع توجيه بكتابة نسخ اخرى وتوزيعها للرفاق والاصدقاء بسعر متواضع، دعماً للحزب ولكوادره السرية التي كرست نفسها للنضال السري وتعيش في بيوت سرية.. ولا تحصل على قوت يومها بسهولة.. ولكن بقناعة رائعة. رغم المخاوف من اكتشاف هذه البيوت من قبل رجال السلطة والتحقيقات الجنائية وما يترتب على ذلك من تعذيب، تحقيق، واعتداءات واعتبارهم صيدا ثميناً تستحق عليه المكافآت والترفيع واحتلال مواقع متقدمة في السلطة.

خلال تلك الفترة كنت اعمل متطوعا في جريدة (صوت الاحرار) في حقل الرياضة، وقد رافقت شاكر اسماعيل الذي فتح ابواب الرياضة في جريدة (البلاد) بدعم من الصحفي الكبير فائق بطي ثم عملت مرة اخرى في مجلة (قرندل) لصادق الازدي، ولم تنقطع خطاي عن شارع المتنبي كلما سنحت لي فرصة ونشرت عدة قصائد حظي بعضها بشيء من الاهتمام، مثل قصيدة (سليني) التي نشرت في جريدة (العصور)، من ابياتها:

«سليني كيف تنتصر الشعوب

ويقص عن مواطننا غريب

شفيف النور ليس له نضوب

نبذت الحب لن أبغي حبيباً

فكل مناضل عندي حبيب»

كما ارسلت قصيدة عن السلام لا اتذكر منها شيئا ولكنها كانت طويلة ونشرت في جريدة لا اذكرها لسليم طه التكريتي باسم زهير احمد، وبعد نشرها دعتني الجريدة فيما بعد لزيارتها (للتعرف على شخصي الكريم) ولم اذهب طبعاً لأني اعتبرت ذلك كميناً جنائياً.

عملت مع شاكر اسماعيل في جريدة (الرياضي) وكنت اكتب باسم (فريد) واتابع مباريات كرة القدم او أتناول مشكلة رياضية وبأسلوب غير مألوف مطعم بمفردات ادبية مثلا: «التقت على البساط الاخضر، اثنتا وعشرون وردة حمراء وزرقاء في مباراة حاسمة» أو «تلٌ من الالوان كان على مدرجات الملعب» وقد فوجئ المهتمون بالرياضة انذاك وطلبوا من شاكر اسماعيل ان يعرفهم على (فريد) من بينهم مؤيد البدري وسواه وكنا نناوئ رياضيي السلطة والقوميين في هذا الميدان وكان حصاد ذلك صدور اول كتاب يضم مجموعة اللاعبين المشهورين آنذاك تحت عنوان (دليل الابطال) بقلم (شاكر فريد).

وتمر الايام، وتصدر مجلة (الفنون) رئيس تحريرها صادق الصائغ، صاحبها المخرج كاميران، لعلها اول مجلة فنية نشرت فيها قصيدة (عودة) وكنت قد ابتعدت عن فيافي الشعر:

سأعود احتضن الورق

وأصبُّ من قرطاسي المحموم الوان الحرق

سأعود للشكوى

وللألم اللذيذ وللأرق

وتطل ثورة 14 تموز المجيدة، تتنفس الرئات التي طوقها الارهاب والرعب والخوف.. وتصدر (اتحاد الشعب) التي تضم خيرة كوادر الحزب الثقافية زكي خيري، عزيز الحاج. وسواهم ويطلب مني ان اكون محاسبا فاعتذر لاني عدت اداوم في كلية الحقوق ورشحت لهم ماجد العامل. ولكن خطانا لم تنقطع عن التواصل مع الجريدة. ومع الجواهري والصحافة الجديدة للوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والشعب التي كان يديرها يحيى قاسم الذي كان عضوا في حزب الشعب مع المناضل الكبير عزيز شريف ثم اخذها لنفسه واستقال من الحزب وقد عملت فيها مراسلا تجاريا وعمل فيها السياب حيث اختير رئيسا للتحرير في مجلة تصدر عنها كما كان يعمل فيها المذيع حافظ القباني.

وبعد كارثة شباط الاسود عام 1963 حيث احتكرت السلطة البعثية الصحافة الى ان صدرت «الثقافة الجديدة» عام 1969 وعملت فيها عضوا في هيئة التحرير (اللجنة الادبية) مع هاشم الطعان ونور الدين فارس، كما تسلمت ادارة ومحاسبة المجلة. برفقة د. صلاح خالص ود. سعاد محمد خضر. وانتشرت المجلة انتشارا واسعاً يفوق الخيال حيث وصل معدل الاصدار الى خمسة عشر الف نسخة، ما أثار انتباه السلطة آنذاك، وفي نفس الوقت كنت اعمل رئيس تحرير مجلة (الاقتصاد) التي تصدر عن وزارة التجارة. وعملت ايضا بعد عودتي من الدراسة في دمشق في (طريق الشعب - ااقسم الثقافي) وكنت اداوم مساء ويحضر معي متطوعا عدنان منشد وكان رئيس القسم حميد الخاقاني. وحصلت ضربة السبعينيات وتفرقت أيدي سبأ ثم عادت الامور الى مجاريها بعد سقوط حكم البعث ومازلنا نتواصل مع الصحافة هذه المهمة المتعبة الساحرة التي يتقبلها عشاقها باعتزاز رغم القيود والاحراجات التي تثقل الخطى وتناجي الافكار وترغم عشاقها على التعلق بها.. والحنين اليها.. والاقرار بمهابتها ونفوذها الواسع في كل ارجاء الوطن.