السعادة في “حديقة أبيقور” إشباع للرغبات وموت لايخيف

السعادة في “حديقة أبيقور” إشباع للرغبات وموت لايخيف

ناهدة جابر جاسم

يقول الفيلسوف الألماني نيتشه” علينا اعتبار مختلف المدارس الفلسفية القديمة مختبرات تجريبية لأساليب حياتية متنوعة فكرا وممارسة كما يسعنا مطابقة نتائج تلك التجارب على حياتنا” إلحاح الإنسان في طلب السعادة وسط خيباته المتتالية وقلقه حيال متغيرات الحياة يجعلانه باحثا دائما عن مفاتيح النجاح في الحياة.

في الديانات والتيارات الفلسفية المختلفة والتي رافقت تطور الإنسان ومنذ القدم تنقلت خياراته متماهيا بها متمردا عليها مازجا بعضها بالبعض الآخر لتلائم فكره وحاجاته. الأبيقورية من المذاهب الفلسفية القديمة التي يمكننا الاستعانة بها لنحيا في انسجام مع ذواتنا فلا نشعر بالغربة عن زمننا الحاضر. تعرضت هذه الفلسفة لتفسيرات تشويهية ومغالطات تاريخية من معارضين متزمتين دينيا وأخلاقيا لأنها تغوص في ابعد من أشباع غريزة الأكل والشرب والتمتع بلحظات الحياة الحسية, الى فلسفة حكيمة ينسجم فيها الآني مع الأبدي, والسعادة مع الأخلاق وحب الذات مع حب الآخر في اعتدال موزون. عام 306 ق.م انشأ ابيقور اليوناني في أثينا مدرسة تدعى “الحديقة” يرافقه فيها تلاميذه واصدقاءه لسنين طويلة, ذاع صيت “حديقة أبيقور” والتي دامت نحوا ثلاثة قرون الى جانب أكاديمية افلاطون ومدرسة ارسطو وفلسفة الرواقيين القائلة ” ان كل شئ في الطبيعة يقع في العقل الكلي ويقبل مفاعيل القدر طوعا”. تميزت “الحديقة” عن سواها بكونها كانت اكثر من مركز اختبارات وتبادل للمعارف وكانت تجمعا أخويا حياتيا لا يفرض تكاليف التسجيل والتعليم على المنتسيبين , بل يتكفل الأثرياء من أنصار الآداب والعلم بمساعدة المحتاجين وكان الرجل يختلط بالمرأة والصغار بالراشدين والعبيد بالأحرار.

اثر وفاة الاسكندر اهتزت المدن اليونانية خاصة أثينا, فلجأ المواطنون اليونانيون الى دائرة الاصدقاء يبحثون معهم عن وسائل الحياة الناجحة بعيدا عن نزاعات مدنهم متبعين نصيحة أبيقور للفرد بالعيش مختبأ غير آبه بالقضايا العامة ومن غير ان يتعرض للأمن والسلام. في قلب هذا التجمع كان أبيقور محترما كاله وتعتبر كلمته الحقيقة في حد ذاتها وكما قال الشاعر الروماني لوكريس في قصيدته الفلسفية “من الطبيعة”:” هذا انت ايها الأب مخترع الحقيقة”. فالأيمان المطلق بكلمة المعلم ميز الابيقورية عن باقي المدارس الفلسفية القديمة التي هزتها المشادات وقسمتها المجادلات. بعد وفاة ابيقور تفرقت عقيدته في حوض المتوسط فنشأت مدارس عديدة خاصة في انطاكيا والاسكندرية وروما حيث ألهمت الأبيقورية أجمل الاعمال الادبية في اللغة اللاتينية ومنها (من الطبيعة للوكريس 98-55 ق.م). تحدد الأبيقورية مفهوم السعادة في بساطة: أن يكون الانسان سعيدا, أي ان يرى الواقع على نحو يلائم اعمق رغباته, لكن طالما انه لا يستطيع تغيير العالم فالأسهل له ان يغير نظرته الى العالم وطبيعة رغباته. لا يقدم أبيقور في مذهبه هدفا علميا ولا يدعي الفضول الفكري لكنه يحاول ان ينزع من فكر الانسان الأوهام والقلق ليدخل باب السعادة, فالخوفان الاساسيان واللذان يقضان مضجع راحة الانسان يتصلان بالآلهة والموت. يرى ان الانسان ينظر من ناحية الى الآلهة كقوى حافظة للكون ومسؤولة عن الفوضى التي تلم به, ويعتبر الموت من ناحية ثانية قصاصا الهيا او عدما مطلقا. وفي الحالتين يعتبر أبيقور نظرة الانسان خاطئة, ففي يقينه ان لا نظام يسير الكون الذي ليس جيدا ولا سيئا بل ولد نتيجة الصدفة لا نتيجة الضرورة. يستعين أبيقور في هذه النظرية بمذهب الفيلسوف اليوناني ديمقراط (460-370 ق.م) الذي قال ” ان الواقع مصنوع من ذرات وفراغ وان الحس لا يكشف لنا الا معرفة جزئية من هذا الواقع المادي”. كما ان الموت ليس الا حالة مرحلية بين مجسمين للذرات. ” العالم مسرح, الحياة مسرحية وانت تدخل, تشاهد, تخرج” في قول ديموقريط. فكرة خلق الكون من بداية ما تعتبر عبثية لدى أبيقور الذي قال ” لا يمكن من اللاشئ أن يولد شئ”. وهنا تتعارض فلسفة ابيقور مع معظم المذاهب الفلسفية القديمة التي أسست عقيدتها على علم الكونيات او الكوسولوجيا على غرار أفلاطون وأرسطو وبعض الفلاسفة الاخرين. (تحدد النظرة الافلاطونية رؤيتها الى العالم بأنه من صنع فنان ألهي طيب اراد تقاسم طيبته مع الجسام السماوية التي خلقها صافية ومنظمة ويحاول الانسان التشبه بها كي يحقق ذاته السامية).

يلتقي أبيقور في المقابل مع المادة العصرية والتفسير العلمي لبداية الكون: مطر من الذرات يهطل منذ ليل الأزمنة, حتى تختار ذرة واحدة الانحراف قليلا عن خط سيرها فتبدأ الصدامات وتتكون المجاميع التي قد يكون عالمنا انبثق منها. فكرة العالم ذات البدايات الهشة والذي قد ينقضي فجأة في وسعها ان تبعث الذعر في نفس الانسان كما في وسعها ان تفرحه لو اعتبر نفسه محظوظا بكونه جزء من الحياة. أن يفرح الانسان من لذة وجوده فتلك الحقيقة الاولى للحكيم. أما المبدأ الأبيقوري الثاني فينفي تدخل الآلهة في حياة البشر وتنتفي بالتالي ضرورة الديانات التي شوهت حقيقة الآلهة فصورتها مسيطرة ومتدخلة في قضايا البشر وتفاصيلهم الدنيوية. جعل أبيقور الآلهة مثالا أعلى للحياة البشرية وهم مكتفون بكينونتهم يعيشون في فضاءات خلوية ما بين العوالم, لا يعرفون البشر ولا يهتمون بهم , مشجعا الانسان على تقليد الآلهة ليضحي بدوره الها بين البشر مكتفيا بسكينة قريبة من اللامبالاة كالتي عاشها أبيقور في “الحديقة” حيث علم تلاميذه مركزا على شعور الصداقة الذي ينبغي ان يسود بين البشر كما هو سائد بين الآلهة , فهذا الشعور يولد الانسجام المريح على صورة الانسجام في الكون. والصداقة كون بشري أكثر تناغما من الحب الذي يغرق الحكيم في الوهم والاضطراب والعزلة. الهدف الأخير الذي تصب فيه حكمة الأبيقورية الثالثة يتمحور حول عدم الخوف من الموت.

هذا الخوف الناتج من فكرتي الجحيم والعدم النابعتين من التأثر بالاساطير عامة وهوميروس خاصة. يقول أبيقور في بساطة: طالما انا حي فالموت ليس موجودا, وعندما يأتي الموت أصبح غير موجود. كما ان الموت في العمق لا يخيف انطلاقا من المد الأبدي للذرات غير الفانية حيث لاشئ يخلق ولا شئ يضيع netshaوكل شئ يتحول, لو استطاع الحكيم ان يكفر بذاته ويذوب في هذه الرؤية للخلود فيتساوى معها, لوصل حتما الى الغبطة الالهية محققا هدفه الأقصى. وبعد ان يتخلص الانسان من أوهامه ومخاوفه يدعوه المذهب الأبيقوري الى تحويل حياته بنزع السطحي عنها والولوج الى العمق متخذا اللذة الذاتية حافزا للسعادة باحثا عن تحديد اللذة ومكامن وجودها. ما هي اللذة الحقيقية أذن؟ يلتقي ابيقور مع مذهب المتعية في تحديد اللذة عبر اشباع الشهوة ويتعارض معها في وضع اللذة في حالة “الراحة” أي فقدان الألم لان هذه الرؤية للذة هي الوحيدة التي تسمح لنا بالخروج من الدوامة العبثية التي تسجننا غالبا, أذ نتعذب لنفرح بلذة عابرة تذوي في كبت جديد يجر معه رغبة اخرى ثم ألما اخر, الى ما لا نهاية. قطف اللذة من اللحظة الآنية ليس هدف الأبيقورية ولا سبيل للخلاص من خلال توالي لحظات السعادة القصيرة, بل في تأمين الحد الاقصى من اللذة والأدنى من الألم بغية الوصول الى أمان النفس الشبيه بسكون موج البحر بعد هدوء الريح. يقسم أبيقور الرغبات التي يجب أشباعها انواعا, بدءا بالرغبتين الطبيعيتين والأساسيتين المحدودتين وهما الأكل والشرب, وتليهما رغبات طبيعية غير أساسية مثل فن تذوق الطعام, الفن والجنس, وهي لا تمنع الألم وتهدف الى التنوع في اللذة وعلى الحكيم عدم التفريط بهما منعا لضياعه. وتحل اخيرا اللذات الفارغة التي ليست طبيعية او اساسية كشهوات الغنى المادي والمجد والخلود التي على الحكيم التخلص منها. لو شاء الانسان تطبيق رغباته تلك فعليه ان يتبع اساليب عملية تساعدة على تنظيمها في فرح من دون ان يشعر بقسوتها عليه, فيشرع اولا في حفظ تعاليم أبيقور الرباعية لنيل راحة النفس وتكرارها:” لا خوف من الآلهة, لا خوف من الموت, السعادة موجودة ومن السهل الحصول عليها, كما ان الألم سهل على التحمل”.

ثم يتابع الانسان هدفه نحو السعادة بالشفاء من السعي العبثي الى الزائد السطحي فيكتفي بالغذاء والملبس البسيطين ويرفض الامجاد الباطلة. لا يعتبر الأبيقوري نفسه متمردا اذ يحترم قوانين بلده ولا يعارضها , فهي تشكل عنصرا من عناصر سكينته. وهكذا يبلغ السيطرة على ذاته واستقلاليتها ضمن اطار الصداقة التي يتناغم بها مع الاخرين. “تأمل في هذه التعاليم ليل نهار مع رفيق يشبهك, ولن تشعر بالاضطراب لا في اليقظة ولا في المنام بل تحيا الها بين البشر لان الذي يحيا في الخيرات الخالدة لا يشبه الانسان الفاني في شئ” يبدو ان الابيقورية وقعت كسائر الفلسفات القديمة في فخ التوق الى الخلود رغم كونها فلسفة واقعية وعملية تحاول التخفيف من قلق الانسان الوجودي والميتافيزيقي. رغم انها مهدت للنظرة المادية للوجود وتلتقي الفكر العلمي المعاصر فهي تقترب من البوذية التي تسعى الى التخفيف من تأجيج الرغبات لدى الانسان وحجب الألم عنه في عالم لا أمل منه في التغير, محاولة مصالحته مع ذاته والكون, مستوحية الكمال من القوة الأعظم منه, تلك القوة التي نستمد منها الخلود. أسئلة تلح في القلوب الشغوفة بالحياة: ماذا يفرق بيننا كبشر لو عم الاعتدال النفوس وخمدت نيرانها؟ هل الكمال ميزة الانسان؟ هل يبقى اثر للفنون والشعر والادب في ظلال الحكمة وعقلنة السعادة؟ قد يجد البعض أجوبة شافية عن اسئلة وجودية عميقة في غمار المذاهب الفلسفية القديمة ومنها الابيقورية التي تدهش بشمول فكرها وحداثته وحسه العملي الذي يلائم الانسان العصري في يومياته اللاهثة

عن الحوار المتمدن