مظفر النواب: صوت الكريستال المتساقط

مظفر النواب: صوت الكريستال المتساقط

هاشم شفيق

قبل عشرة أيام عنّتْ في رأسي قصيدة « أبيتنه ونلعب بي» للشاعر الكبير مظفر النواب، فذهبت باحثاً عنها كأغنية، فلم أعثر على النسخة الأصلية المغنّاة، لكنني وجدتها بكلمات أخرى، تؤدّى من قبل مغنٍّ من هذه الأيام، تلاعب بكلمات مظفر النواب، وأبقى على اللحن المميز، وهو لملحن عراقي.

حرت في أمري، فوسّعت من دائرة البحث، حتى عثرت على الكنز، لكنه بصيغة أهم وأكبر، أنه مظفر يغني الأغنية، القصيدة، بصوته المبحوح، والمجروح والمتكسّر مثل شظايا الكريستال المتساقط مع نثير لشلال.

كان مظفر قد أدّى هذه الأغنية في تسجيل خاص عام 1970، بصوت متفرّد، ثمة حزن عميق تخلل مسار الأغنية، واعتراها جرح شاعري مرهف، في الحال مسّتني كلماتها كما البرق، وجعلتني أجهش بالبكاء:» أبيتنه ونلعب بي شله غرض بينه الناس، لا بينه الغمازة ولا بينه اللمازة، ولا بينه لتحب المكتب مَيْلن غاد عن دربنا». وهناك مقطع آخر يقول فيه بحرقة ورنّة مثالية لا مثيل لها « صيحولي شيَرْدون أهل المِجَرْ». هنا الأغنية التي أداها مظفر على طريقة رقص أهل الجنوب العراقي، دوّتْ في داخلي وخضّته، وصعقني صوت مظفر، إذ كل ذلك تم أداؤه مع الهزة الجسدية، ذات الدلالة المعنوية، وبحرقة بائنة ودامعة، وذات تأثير فعال لمن يسمعها بصوت مظفر النواب. طبعاً كلمات الأغنية سيكون من الصعب فهمها كلها، بالنسبة للمستمع العربي، فمظفر بكلماته المحكية يراكم كمية هائلة من الدلالات، والمعاني والصور الجميلة الآسرة، لكن برؤيته الفنية والشعرية هو، وعلى طريقة كلام أهل الأهوار. فصاحب ديوان « للريل وحمد» ديوانه الفذ الذي يعتبر فتحاً في شعر المحكية العراقية، قد أثّر في جيل طويل ومتعدّد، من شعراء المحكية العراقية، أو «الشعر الشعبي» كما يسمّى في العراق، وامتد تأثيره حتى على شعراء الفصحى العراقيين والعرب.

الشاعر مظفر النواب الذي غاب عنا نجمه هذا اليوم، كان الشاعر العربي الوحيد الذي تغلق الطرقات وتسدّ حين يقرأ الشعر في مكان ما، وتشهد على ذلك أمسياته الجماهيرية، في كل من بيروت ودمشق، وعواصم العالم العربي والأوروبي التي، استقبلت صوته المترنّم، والمُدين للخضوع والابتزاز والممالأة بكل أشكالها، وحيثما كانت، لمن يدقّون اليوم طبول التطبيع. لقد صرخ مظفر بكلمة «لا» ملء فمه، وبمهابة فائقة وفريدة قل نظيرها.

لقد خسر الشعر العراقي والعربي، بغياب الشاعر مظفر النواب اليوم، صوتاً شعرياً خاصاً وملهماً ولاذعاً، لم يألفه الشعر العربي من قبل. فهو شاعر ورسام ومغن، وقد تعرّض للاضطهاد من قبل السلطات السابقة، فحوكم وسُجن في « نقرة السلمان «، مع كوكبة لامعة ونادرة من المثقفين العراقيين، إبّان فترة الستينيات السياسية العراقية اللاهبة، من القرن المنصرم. وقد تعرّض كذلك للتعذيب والتهكّم والابتزاز، ثم للهروب والغياب عن بلاده لفترات طويلة، قضّاها متشرداً، ما بين بيروت وليبيا ودمشق وأخيراً الخليج العربي.

كانت قصائد الراحل الكبير مظفر النواب غذاء للمناضلين والوطنيين وسجناء الرأي السياسيين، وقوتاً لأجيال من العراقيين والمنفيين والمهاجرين العرب، قصائد يحفظها القلب قبل العين، وتردّدها الدموع والأغنيات والهلاهل، كونها قصائد مغنّاة، عذبة ونادرة، وتحمل قيمة فنية عالية. ومن هنا تلقفها الناس، وأدتها أصوات كثيرة، أبرزها صوت المطرب الياس خضر الذي غنّى تحفته «مرينه بيكم حمد واحنه بغطار الليل واسمعنه دك كهوه وشمينا ريحة هيل، يا ريل صيحْ بقهرْ صيحة عشكْ يا ريلْ ».