الأم عند النواب.. رقيب أخلاقي

الأم عند النواب.. رقيب أخلاقي

وائل المرعب

يا حجام لا تمشيش الراكك الراكك

يابن الحره مايستوحش التفاكَ

هكذا ينبري النواب (وهو العليم بميزات الفارس) إلى شحن طاقة الشجاعة في مقاتل من مقاتلي الكفاح المسلح في الاهوار أواسط الستينات عندما كان هو واحد من هؤلاء الصفوة الشجاعة ويصر على أن رفعة البندقية ضمانة أكيده توفر له قدر كبير من الأمان، وتطرد الوحشة في الدروب الموحلة والناقعة بالخوف والترقب الممض..

لذا عليه أن لا يحني قامته ويسير محاذياً حزم أعواد البردي ويمشي بحذر الخائف.. أن حالة الخوف لدى المناضل المحارب (مظفر النواب (تنتهي تماماً عندما يتوشح صدره صفاً من الرصاص وتبرز من وراء كتفه ما سوره البندقية التي يعادل فعلها (حسب مفهومه) وهي بيد المقاتل الشجاع المجرب إلى فعل دبابه أو قاذفة صواريخ أو حتى طائرة مقاتلة!

كما ينادي هذا المقاتل في الشطر الثاني من البيت بأبن الحره (وهذا الذي يهمنا) وهنا تتجلى الحالة الأبداعيه الخلاّقة لدى الشاعر بأحلى صورها اذ يستخدم فيها الأم العراقية كرمز دلالي عالي النبره.. فهذه الأم الحره تمثل الرادع الأخلاقي لهذا المقاتل والرقيب الحازم على ادائه وصموده القتالي وهي الكائن الاعتباري الذي يخجل منه في حالة النكوص أو التقصير في أداء مهمته.

لم يكن اهتمام النواب بالأم كونها رمز متعدد الدلالات هو محض اجتهاد شخصي، وإنما لكثرة الشواهد الحقيقية التي تواترت قصصها وتداولتها الناس والتي ترسخت في ذاكرته ووجدانه عن دور الأم العراقية المثقلة حد التخمة بالهم والحزن المتأصل في الأعماق والمجبولة على الصبر وتحمل الأذى، في شحذ همم أولادها للدفاع عن المقدسات كالعرض والأرض ونصرة الضعيف.. فلا زالت ماثلة إمامة الأم التي فقدت ولديها في المعركة دون أن تعلم فيأتيها احدهم بالخبر ويطلق (هوسته) المعروفة:

) جن لا هزيتي ولوليتي (

فتدرك بحسّها الغريزي ما عناه فترد وهي فخوره:

)هزيت ولوليت لهذا(

كما لازالت طرية في ذاكرة الشاعر صورة تلك الأم التي تصف فروسية وأخلاقيات أخيها وهي بين زوجها وأولادها (يعتبر الأخ دون سواه في الجنوب العراقي رمز الفخر والتباهي):

دشدله على الغوج المحجل (الفرس(

البكَصته هلال السعد هل (الغره (

رباعي ومن رخته أيتجفل (الرسن (

إلى أن تصل:

أخوي جاراته خواته

أخوي العبد والضيف اغاته

هذا النموذج من النساء اعتمده النواب في العديد من قصائده الشعبية خاصة في الفترة التي أعقبت انقلاب شباط الدموي والفترة التي شهدت تنامي حالة الرفض المسلح للسلطات الغاشمة في اهوار الجنوب.

أن طاقة النواب الإبداعية المتفجرة وفرادته في أبداع وخلق الصور الشعرية وانتقالاته العجيبة بين الحلم واليقظة دفعته بعد أن عاش فترة من الزمن في ريف الجنوب- العمارة تحديداً- ووقوفه على المأساة الحقيقية التي يعيشها أبناء هذه المناطق، إلى أن يخرج عن ثوبه المديني ويركن لغته العربية الفصيحة جانباً (وهو المتمكن منها بحكم كونه من المتفوقين الأوائل في كلية الآداب- قسم اللغة العربية) ويستعير لغة جديدة عليه وغريبة عنه في كل شيء مفردات وجمل وصياغات، ويفهم ما يعنيه مصطلح (الحسجه) ويعجب به، فأصبحت اللهجة الجنوبية هي الأقرب إليه ووجدها الساحة الرحبة التي تستوعب جموح خيالاته ويمرح في مضمارها كيفما شاء , وراح ينشر تباعاً نصوصه الشعبية الخالدة الأولى (للريل والحمد) (عشاير سعود) (صويحب) (فوك التبرزل) وغيرها في المجلات الأدبية الرصينة وقتذاك.. فأحدثت دوياً هائلاً في الوسط الثقافي العراقي لما حملته من طروحات جديدة ومفردات وصور لم تكن مألوفة في الأنماط المتبعة والمتوارثة في هذا الشعر، وقد كانت بمثابة الولادة الحقيقية لشعر شعبي عراقي جديد يستجيب لمتغيرات العصر والنزعة الحد اثوية التي طغت أبان فترة الستينات.

لقد عثر النواب على ضالته في شخصية الأم في الريف الجنوبي العراقي فاعتمدها كرمز مؤثر يستعين به لخلق حالة الانبهار العاطفي المتوقد ويستثير به العزائم إذا ما أصابها وهن ما أو يحث الغيرة العراقية ليصعد من حرارة توقدها حتى تفعل الأعاجيب!! هكذا دأب النواب على زرع أعواد الثقاب كلما سار على درب النضال والحياة فيشعل ويشتعل:

يغرز إصبعه في موضع الجرح لينز الألم والدم الفاسد سويةً

يضرب على وتر النخوة فيستثير الكرامة الشخصية لتفعل دفاعاً عن عزتها ما لم يكن في الحسبان... هكذا كانت الأم تنتقل بين قصائده شعلة من وهج لتنير درب المناضلين، فأنتج (البراءة) و(حرز) ومعلقته الشهيرة في هور (الغموكه) التي عدت من أعظم الملاحم الشعرية في أدب المقاومة التي بدأها:

أطرن هورهه مصكك وأصبنهن عليك جروح

يحملن جالمطبجات الزركَك صلهن يشوغ الروح

وأجيك شراع ما هو شراع عريانة سفينة نوح

أن ما يحز في النفس حقاً أن العراق بحكم تاريخه الدامي لم يكن وفياً لمبدعيه فأما يتعرضون للتصفيات الجسدية وأما يموتون غرباء ويُدفنون في غير أرضهم، أتمنى أن لا يكون النواب واحد من هؤلاء... أن الطاقة الإبداعية لهذا الشاعر تطغي أحيانا كثيرة على الطاقات الإبداعية لسواه حتى على صعيد الأدب العالمي.. فلناخذ مثلاً على سبيل المقارنة صورتان.. الأولى.. تقول أنا كارنينا في رائعة تولستوي حينما تصعد العربة في نهاية الرواية وقد اعتصرها الألم بسبب خيبتها (لو كان للحزن والقنوط وزن لما احتملتني هذه العربة) والثانية.. تقول ام حرز في واحده من روائع النواب وهي مقبله على زيارة قبر ولدها الشهيد نائب العريف (حرز) والمدفون غريباً في ارض ليست بأرضه وفي يوم ممطر :

آنه أمك حرز جيتك

دكَوم الهه تلكَا هه

زلك والروح مابيهه

تشيل أحمول دنياهه

لنلاحظ كيف تناشد هذه الأم الثكول ولدها كي ينهض من رقدته الابديه ليعينها حتى تصل إليه وقد أثقلتها هموم الدنيا.. وكلمة (أحمول) هي مجموعة أوزان وليست وزناً واحداً.. أذن تضاعف أولا الثقل هنا، وثانياً ما فعلته كلمة (زلك) في السياق العام للمعنى و(الزلك) هي الأرض الطينية الموحلة التي لا تستقر تحت ثقل القدم.. فتتضاعف مرة اخرى المعاناة... أذن حجم ما كانت تعانية أنا كارنينا وهي تصعد العربة المستقرة على الأرض وذات المقعد الوثير لا يقارن بأي شكل من الإشكال بحجم ما كانت تعانية أم حرز... وهنا تبرز مقدرة مظفر النواب المتفردة في التقاط الصور النادرة من الحياة بعد أن يضخ بها شيئاً من نسغ ما يبدعه خياله الخلاق وحسه الإنساني. ولكي نعود الى الأم العراقية والمناضلة وكيف استضافها الشاعر كي تدخل في نسيج قصائده الثورية.. علينا أن نقف ونتأمل ملياً قصيدته الشهيرة (البراءة) التي تناقلتها الألسن منذ أواسط الستينات وحتى يومنا هذا دون أن تنشر أو يضمها ديوان وكأنها منشوراً سرياً سعى أغلب العراقيون على حفظه عن ظهر قلب وكأنهم حريصون على ان لا يقع بيد رجالات السلطات المتعاقبة.

) البراءة) بقسمها الأول الخاص بالأم لا تقتصر فقط على دور هذه الأم في رص موقف ولدها وصموده أمام المغريات التي طرحتها السلطة حينها بديلاً عن أطلاق سراحه.. وإنما هي استعراض تأريخي لعلاقته بها اعتباراً من ولادته حتى أصبح مناضلاً واستذكاراً لكل القيم التي تربى عليها في هذا البيت المناضل.. فهي تقوم بوخزة في المواضع الأكثر إيلاما وتحسساً في ذاكرته كي يصحو منتبهاً على المزلق الأخلاقي الذي تراوده نفسه في الولوج إليه:

يبني ضلعك من رجيته الضلعي

جبّرته وبنيته

يبني خذني العرض صدرك واحسب الشيب

الي من عمرك جنيته

يبني انطش العمه بعيني وجيتك

بعين الكلب أدبي على الدرب المشيته

هنا تذكره بكيانها المهدم بفعل الكبر والمرض والتعب المضني الذي شرب من رحيق حياتها الكثير كي تربية وتنشأه وكأنها تطالبة برد بعض من الدين الذي بذمته لها وهي لا تطلب سوى أن يصمد وأن يتذكر مبادئه السامية، كما تخبره بعماها الذي لم يمنعها من الوصول إليه، ثم تسترسل معه وتعود الى الطفولة الأولى من حياته:

شيلة العلاكة يبني اتذكر جتوفي

ابلعب عمرك عليهن

سنه وجفوفك وردتين على راسي

وبيك أناغي بكل فرح عرسي النسيته

يلي شوفك يبعث الماي الزلال

بعودي وأحيا واني ميته

أبيض عيونك لبن صدري

وسواد عيونك الليل إلي عد مهدك بجيته

ثم تنتقل إلى تذكيره بولده الذي لازال في المهد وكيف تناشده بأن لا يخاف اليتم بل عليه أن يفخر إذا ما استشهد والده بشرف..

وأبنك التوّه يناغي الخرز بالكاروك

كتله لتخاف اليتم جدّه

المامش أبو عنده الحزب ابوه الحزب بيته

ثم تصل الى أن تسأل ولدها وهي مرتعبة:

ياعمد بيتي يكون الدهر

ضعضع عظم منك للمذله وللمهانه

وساومت جرحك على الخسه وجفيته؟

وأخيراً تصل إلى ما يشبه التهديد وتصدمه بمقارنه جارحه حتى يثب الى رشده:

يبني ابن الجلب يرضع من حليبي

ولا ابن يشمر لي خبزه من البراءه

يبني ياكلني الجرب عظم ولحم

وتموت عيني ولا الدناءه

ثم تعود لتستنجد به:

يبني لا تثلم شرفنه

يبني يوليدي البراءه اتظل

مدى الأيام عفنه

ثم تعطيه وصفه جاهزة للموقف الذي عليه أن يقفه وتختار له ضفة الأمان والشرف في المعادلة النضالية العسيرة الا وهي الصمود:

يبني خلي ايدك على راسي

واحلف بطاهر حليبي كَطره كَطره

وبنظر عيني العميته

وكَلي انتي أمي وهذا حزبي

حزب ابوي المالواني وما لويته

كَلي شلون أهدّم حزب بيدي بنيته

لقد حقق النواب نجاحه الكبير في توظيف المرآة العراقية وخاصة الأم في شحن قصائده الثورية بدفق عاطفي يطفح بالأثاره ويحقق مردوداً اخلاقياً أصبح درساً للمناضلين الثوريين، إذ فعلت قصائد الشاعر هذه فعلها الساحر في وجدانهم ويقينهم، حيث باتوا يسترجعون هذه الصور والحوارات في أحلك الظروف قساوة وهم يقبعون في زنزانات السلطة القمعية ويتعرضون لأشد أنواع التعذيب والقهر الجسدي حتى أمست هي التعويذة التي تقيهم العثرات وتدفع عنهم غائلة الخذلان والضعف الذي قد ينتاب الهمة والقدرة على الصمود.