مظفر النوّاب طوى «الزمن الثوري»

مظفر النوّاب طوى «الزمن الثوري»

خليل صويلح

هذه المرّة كان الخبر المفجع مؤكداً. مات مظفّر النواب (1934-2022) في أحد مستشفيات الشارقة. انطوى زمن الهتاف الثوري، والحناجر النازفة ببلاغة الأمل، و«زرازير البراري».

كان عام 1963 - إثر صعود الرفاق البعثيين إلى السلطة- بداية رحلته مع الشقاء والمطاردة والاختفاء، بسبب تضييق الخناق على الشيوعيين، فاضطر الهرب إلى إيران عن طريق البصرة، ليكمل طريقه إلى موسكو معقل الشيوعية العالمية، إلا أن المخابرات الإيرانية «السافاك» قرّرت تسليمه إلى الأمن العراقي ليواجه حكماً بالإعدام، انتهى إلى السجن المؤبد. في سجن «نقرة السلمان» الصحراوي ذاق عذاباً رهيباً، قبل أن يُنقل إلى سجن «الحلة». وهناك تمكّن مع بعض رفاقه من حفر نفق في الزنزانة، والتسلل إلى خارج أسوار السجن، في حادثة مشهورة. هكذا اختفى فترةً في بغداد، قبل أن يتجه إلى الأهوار في الجنوب. هناك اكتشف حياةً مختلفة، وانتبه بشغف إلى رنين لهجة تضج بموسيقى خفية، سوف تكون في متن قصيدته العامية واشتقاقاتها المتعدّدة، القصيدة التي يشبهها الشاعر بليونة الطين وتكويناته، فيما يرى أن الفصحى تشبه النحت بالحجر. ولكن هل غيابه الشخصي عن المنابر، سحب قصيدته من التداول؟ القصيدة التي كانت أشبه بحقل ألغام، وقنبلةٍ موقوتة، ووثيقة إدانة، القصيدة التي تحتشد بمعجم من المفردات النارية، وبلاغة الرفض، والسخط على أنظمة العار، والهجاء المرير لخريطة مزّقتها الشعارات والهزائم. لا شك أن قارئ اليوم، الثمل بجرعات الميديا، وما بعد ثقافة الكاسيت، سيعيش حالة اغتراب قصوى نحو قصائد صاحب «وتريات ليلية»، ولن يجد نفسه في عبارة مثل «القدس عروس عروبتكم/ أولاد القحبة هل تسكتُ مغتصبة؟»، العبارة التي تناقلتها أجيال التمرّد مثل مانفيست ثوري عبر أشرطة الكاسيت المهرّبة، وكأن شاعر الفصحى كائن آخر لا يشبه شاعر العامية إلا بالاسم، ذلك الذي يذوب شجناً وحنيناً وشفافية بصوته المجروح. قارئ اليوم أيضاً لم تعد تهزّ وجدانه القصائد المدججة بالسلاح والهتاف و«وطني هل أنت بقية داحس والغبراء»، بعد أن فقد خنادقه كلها وبات مكشوفاً مثل دريئة في حقل رمي. لعل المشكلة الأساسية هنا تكمن في ارتباط هذا الشعر بحقبة ثورية من جهة، وتغيّر الذائقة الشعرية تحت ضربات الهزائم العربية المتتالية، وتمزّق الخريطة إلى خرائط، من جهةٍ ثانية. فمظفّر النوّاب شاعر القضايا الخاسرة بامتياز من بغداد إلى القدس وحتى ظفار «قمم، قمم، معزى على غنم/ جلالة الكبش، على سمو نعجةٍ، على حمار بالقدم/ مضرطة لها نغم» يقول. هكذا دلق الشاعر كل المفردات الشنيعة في المعجم، محرّضاً على ثورات لم تحصل، وحين أتت في «الربيع الأسود» كان الشاعر قد أطفأ شعلته واستراح.

عن الاخبار اللبنانية