سنيكا.. الفيلسوف الذي زهد في متاع الدنيا

سنيكا.. الفيلسوف الذي زهد في متاع الدنيا

د. يسري عبد الغني عبد الله

” لما كان الناس إخوة، فقد وجب عليهم أن يتعاونوا على البر، وفي السراء والضراء وحين البأس، وإنه من الواجب على كل إنسان قادر إطعام المسكين، وهداية الضال، وذلك هو الواجب الأسمى” (سنيكا).

الحياة:

كان مولد الفيلسوف والروائي / سنيكا في مدينة قرطبة، في السنة الرابعة قبل ميلاد السيد / المسيح (عليه السلام)، وكان والده من سراة الرومان، محبًا للأدب والفكر، كما كانت والدته تتمتع بقدر كبير من الذكاء والثقافة، كما كانت على خلق رفيع.

ذهب سنيكا إلى روما وهو بعد صبي يافع، ودرس الفلسفة، فأكب عليها وكلف بها كلفًا شديدًا، وتعلم الأخلاق وفقًا للفلسفة الرواقية على يد أستاذه (أطالوس)، فحذا حذو الأستاذ، وزهد في متاع الدنيا، وأنشأ يعيش عيشة الفيلسوف الذي لا يطمع في أي شيء دنيوي زائل، غير أن (طيبروس)، إمبراطور الرومان في تلك الآونة، كان قد حظر على الناس ممارسة الشعائر الدينية الأجنبية.

وخاف والد سنيكا على ابنه مغبة الاندماج في زمرة أهل تلك الشعائر، فألح عليه أن يترك الفلسفة، وأن ينصرف إلى الخطابة والكتابة، ونجح سنيكا في المحاماة وطار صيته في الأفاق، فحنق عليه (كاليجولا)، وكان طاغية روما المستبد حينئذ، وأمر بقتله على الفور، لولا أن نجا سنيكا من الهلاك بفضل سيدة (يقال إنها إحدى سيدات المجتمع وكانت مقربة لقصر الحكم) سعت له عند ذلك الطاغية، فعفا عنه، وتنحى سنيكا عن الخطابة والمحاماة، وعاد إلى الاشتغال بالفلسفة التي استحوذت على لبه وقلبه.

اتهام باطل ونفي إجباري:

وفي ذلك الحين، تحمس سنيكا لتعاليم الفيلسوف المعلم / ديمتريوس الكلبي، وشرع يرشد طائفة من الشباب المستنيرين، وعلى رأسهم تلميذهم (لوقليوس)، ولكن (مسالينا) تلك السيدة التي اشتهرت في مجتمع سنيكا بالتهتك والخلاعة لم تكن تحب سنيكا أو تميل إليه، فرددت شائعة مفادها اتهام سنيكا بجريمة الزنا مع (يوليا) ابنة (جرمانيقوس)، وحكم على سنيكا بالنفي الإجباري إلى (كورسيكا) سنة 41 بعد الميلاد.

الحكيم لا يضام ولا يهان:

فكتب إذ ذاك رسالة (المواساة) إلى (مارقيا)، و (رسالة في الغضب)، وظل الفيلسوف في منفاه 8 سنوات، شريدًا طريدًا محرومًا من كل شيء إلا من عون الفلسفة، وكما كان يقال: الحكيم لا يضام ولا يهان مهما كانت الظروف والأحوال، وعندما أعلن مقتل (مسالينا) سمح لسنيكا بالعودة إلى روما.

وقلد سنيكا منصب (بريتور) وعهد إليه بتربية (نيرون) الطاغية المشهور فيما بعد، وفي الواقع نحن لا ندري ما كان من أثر الفيلسوف على الطاغية، مع أن سنيكا كان أستاذه ومعلمه وناصحه المقرب إليه، وفكر سنيكا آخر الأمر أن يعتزل الحياة العامة متفرغًا للفلسفة حبه الأول والأخير، وقيل: إنه أراد النزول عن جميع أملاكه الخاصة، فأبى عليه نيرون ذلك التصرف، واتهم الفيلسوف بالاشتراك في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم، وحكم عليه بالإعدام.

حكم بالانتحار وزوجة وفية:

وأذن له نيرون أن ينتحر أمام الناس، على عادة الرومان في ذلك الحين، إلا أن زوجته التي كانت تحبه وتجله أعلنت رغبتها في أن تموت معه في نفس الوقت، ومن هنا اجتمع أصدقاؤهما، وقطع سنيكا شريانًا من شرايين ذراعه، وكذلك فعلت زوجته.

يقول لنا التاريخ أنه أثناء هذا المشهد المأساوي الدموي شرع سنيكا يلقي خطبة من أبلغ خطبه على جمع من رفاقه ومريديه، والدم يسيل من جراحه، حتى مات وهو يخطب.

أما السيدة زوجته فقد تم علاجها بأمر الإمبراطور حتى شفيت من جراحها، ولم يبق من مؤلفات سنيكا إلا القليل، منها عشر روايات تراجيدية، ورسالة مواساة إلى أمه، وأخرى إلى (ماراقيا)، وثالثة إلى (بوليب)، ووصل إلينا من مؤلفاته (الغضب)، و (السعادة)، و (ثبات الحكيم)، وغيرها..، إلى جانب رسائله إلى صديقه (لوقليوس).

عن امتحان الضمير وكمال النفس:

تناول سنيكا أقوال الرواقيين الأقدمين في مذهب الأخلاق، فأضفى عليها حياة إنسانية ومرونة لم نعهدها في فلسفة الرواقيين، ومن أرائه التي أسهب في بيانها قوله: إن بذل الجهد من شيم الكرام، يعني خاصتهم وصفوتهم، وإن الشرف الصحيح هو الذي يناله الإنسان بنبل قلبه وعظمة نفسه.

ويقول: إنه ينبغي علينا أن نعد الكمال صراعًا مستمرًا، وأن نخضع أنفسنا لاختبار جواني (داخلي) دقيق، فننظر كل مساء كيف أنفقنا ساعات نهارنا.

وسينكا يذكرنا أنه لا شيء من افعالنا بناج من رقابة الضمير الذي يقف لنا بالمرصاد، ثم هوينصح لنا بالاستعدد بالحياة الباقية، وذلك بأن نضعها نصب أعيننا، وأن آخر أيام الحياة أول أيام البقاء، ثم هو يتكلم عن الإعجاب الذي يستولى على نفوسنا حين يتجلى لنا النور الإلهي، وحين نستشفه من منبعه عند التأمل، ويصف الأديب الفيلسوف حضور الله في نفس الإنسان حضورًا لو انكشف لفاضت له النفس وجدًا.

إنسانية متفردة:

وقد خفف سنيكا من حدة الأخلاق الراقية القديمة، فلشد ما تسمعه يتغنى بالرحمة والإخاء، ويقول: لما كان الناس إخوة، فقد وجب عليهم أن يتعاونوا على البر، وفي السراء والضراء وحين البأس، وهو يرى أنه من الواجب على كل إنسان قادر إطعام المسكين، وهداية الضال، وذلك عنده هو الواجب الأسمى، وإن خالف المألوف من أخلاق العصر وآرائه، وسنيكا يفضل طيبة القلب، والإحسان في السر، على سائر ضروب الإحسان الظاهر.

عن الفلسفة والمال:

وشواهد ذلك أنه يرى التكالب على جمع المال والتصارع على المناصب أمرًا ذميمًا، ولكنه يقول لنا: إن المال إذا جاءنا لم يكن من الحكمة أن ننبذه نبذًا، بل ربما كان من ضعف الرجل أن يعجز عن احتمال الثروة، إذ الثروة محنة ينبغي عليه أن يجتازها بكرامة ومروءة.

ويقول سنيكا: إذا صح أننا ينبغي أن نعيش على وفاق مع الطبيعة، أفلا يكون من مخالفة إرادتها أن نوقع بالبدن صنوف العذاب؟، نعم، إن الفلسفة تحض الناس على العيش في كفاف، لكن الكفاف لا يتنافى مع الاستمتاع بطيبات الحياة، وجملة القول: إننا ينبغي أن نقتني المال، على شرط أن لا نتركه يستعبدنا، وإذا ضاع منا لم تذهب نفوسنا عليه حسرات، وما أجمل أن نساعد به المحتاج والفقير والضعيف.

يقول الفيلسوف الزاهد: إننا نستطيع أن نتغنى بما يسمى العصر الذهبي، وأن نشيد بالأكواخ التي عاش فيها آباؤنا الأولون !، ولكن لا نستطيع أن نحمل ثريا من الاثرياء، أو سيدًا من السادات على ان يعيش فى برميل، كما صنع (ديوجين).

عن موقع ثقافات