الفيلسوف الروماني سينيكا:  الرسائل والفلسفة العملية

الفيلسوف الروماني سينيكا: الرسائل والفلسفة العملية

كه يلان محمد

الاهتمام بالحقل الفلسفي لم يعد قيدَ الانشغالات الأكاديمية، ولا يقتصرُ الغرض من هذا النشاط العقلي على إثارة السجالات بشأنِ الأحجية اللغوية والملابسات السُفسطائية، وأصبحَ الإدراك بضرورة العودة إلى الجانب العملي في المجال الفلسفي واضحاً في مساعي عدد من المفكرين المعاصرين،

كما أنَّ رصد التقاطعات بين حياة الفلاسفة ومنجزهم المعرفي، من مقومات الروايات المستمدة مادتها من سيرة الأعلام الفلسفية، كما تجد ذلك في أعمال الكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم، إذ يتناول في ثلاثيته عن سبينوزا ونيتشه وشوبنهاور المبادئ الأساسية في مشاريع هؤلاء، رابطاً ذلك بتحولات في مسيرتهم الحياتية، وعلى المنوال ذاته يستعيدُ المفكر الفرنسي فريدك لونوار تجريته الشخصية في الاكتشافات الفلسفية ورحلته مع سبينوزا، كذلك الأمر بالنسبة للكاتبة البريطانية إديث هول التي تحددُ المحطات التي مرتْ بها قبل الوصول إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، وإدراك عالمه والبعد العملي في أفكاره.

إذن ذاب الجليدُ بين الفكر الفلسفي والحياة اليومية، ولا يعني التفلسفُ الانكفاء على الفضاءات المحددة، والتنسم خارج أوكسجين الشارع. ومن المعلوم أن التأملَ في الظواهر البشرية انطلاقاً من تجربة الذات، نواة لتأسيس المنظومات الفلسفية يرى مونتين، أن في كل حياة بقطع النظر عن تواضعها، توجدُ أفكار وبإمكان المرء أن يستمدُ أفكاراً عظيمة من تجربته الذاتية، أكثر من تلك الأفكار الراقدة بين تضاعف الكتب.

عليه فإنَّ مراقبة الظواهر الخارجية، دون الانقطاع عن الشعور الباطني أو تجاهل الأسئلة التي تجولُ في الذهن، يكونُ عاملاً لتوليد الأفكار التي تزداد بصيرة بالهموم الوجودية والهواجس النفسية، لذا فمن الطبيعي أن تحلَ الفلسفة مكان أريكة المُعالج النفسي، فإنَّ ما يزيدُ من أهمية الطب النفسي برأي إرفين د. يلوم هو تقاربه مع الفلسفة من حيث الآلية، فإن الطبيب على غرار الفيلسوف يقومُ بإجراء دراسة معمقة ويشركُ المريضَ في البحث عن الأسباب، من خلال صياغة الأسئلة. والحال هذه يتعاظمُ دور الفلسفة العملية في عالم اليوم، فإنَّ الأزمات المتتالية أدت إلى تفاقم الشعور بالاختناق والملل، وبالتالي لم يعد الكلامُ عن أفول الفلسفة عملةً رائجة. صحيح أن الطين ما زاد إلا بِلةً، جراء الانسياق وراء دعاة المشاريع الخلاصية والحل الأخير، وهم في الأغلب كانوا متمترسين خلف التيارات الفلسفية، لكن ذلك لا يعني الوصول إلى الطريق المسدود في التعاطي الفلسفي مع المعاضل الحياتية. فما دوّنهُ الفيلسوف الروماني سينيكا في مؤلفه المنشور بعنوان «رسائل من المنفى» يقدمُ وصفة بشأنِ أسلوب معايشة المرء لواقع يعجُ بالاحتمالات المتعددة، إذ يهدفُ من خلال فلسفته إلى تطويع النفس مع اللا اكتمالية المتلازمة مع الوجود.

هبة فلسفية

يناقشُ سينيكا في سياق مراسلته مع لوكيليوس جملةً من المواضيع المتشابكة مع واقع الحياة والصفات المتغلغلة في سرائر النفس البشرية، بدءاً من الخوف والأمل، مروراً بالرغبة والتقدم في العمر، وليس نهايةً بالحظ والقدر، لكن قبل معرفة ما يقولهُ سينيكا حول هذه المعطيات الحياتية، فمن الأجدر تحديد منزلة الفلسفة لدى الحكيم الروماني، فهو يعترفُ بأنَّه يدينُ بحياته للفلسفة، كما أن الحرية الحقيقية هي وليدة التفلسف، لافتاً إلى أن الحياة الجيدة هبة الفلسفة. ففي نظره أنَّ مهمة هذا النشاط لا تكمنُ إلا في تدريب العقول، لذلك يرفضُ انتساب التقنيات المستخدمة في الحياة اليومية، أو التطور العمراني إلى الفلاسفة، كما يذهب إلى ذلك بوسيدونيوس، والأهم على هذا المستوى هو رأي سينيكا عن الفضيلة التي لا تعطيها الطبيعة للإنسان، بل التحول إلى كائن بشري جيد فن يتطلبُ الانهمام على النفس. إذن يولدُ الإنسان من أجل الفضيلة، ولا يكونُ مفطوراً عليها حسب تأملات سينيكا، ومن الملاحظ أسبقية الفضيلة على جميع الاهتمامات الأخرى بالنسبة لسينيكا، حيث يتساءلُ في الرسالة المعنونة بـ»الدراسات الحرة» عن فائدة المعارف الهندسية والأدبية واللسانية والموسيقية، قياساً بمنفعة الفلسفة، ربما قد لا توافق على كل ما تضمه هذه الرسالة من إنكار أي دور للمجالات الفنية والأدبية المتنوعة، في خدمة الجانب الروحي والذهني، لكن ما يفهمُ من كلام سينيكا أن الأولوية يجبُ أن تكون للنشاطات التي تفيدُ لتحسين نمط التفكير، وتنظيم حياة المرء، والإرشاد إلى ما يجب أن يفعله وما يصحُ تركه، وتحقيق الغايات الأربع «الحكمة والشجاعة والتحكم بالنفس والاعتدال».

لا يفهم سينيكا الفلسفة بوصفها دعوة إلى التزهد، بل هي خريطة طريق إلى حياة بسيطة. تنفتحُ رسائل سينيكا على تناول الظواهر الحياتية والسلوكية ولا يثقلُ مضمون هذه المدونات بالنبرة الخطابية المعقدة، وذلك ما يضاعف من قيمتها العملية.

ويرى سينيكا أنَّ ما نقوله يجبُ أن يكون مفيداً، وليس ممتعاً وحسب، إذ ينصحُ لوكيليوس بأن يصبح فيلسوفاً عملياً ولا يكتفي بإمتاع مستمعيه بكلمات ذكية، بل من الأفضل بالنسبة له أن يحصنَ روحه ويحضرها ضد أي شيء يهددها، والناظرُ إلى محتوى رسائل سينيكا يقعُ على الصور المُستمدة من تربة الحياة، والتجربة الشخصية فهو كان يعاني من مرض الربو الذي يصفه الأطباءُ بـ«مرين الموت» غير أنَّ سينيكا وجدَ الرحلة في التأملات البهيجة، خلال صراعه مع نوبات المرض، ولم يستسلمْ لموجات التوتر الناشبة من ضيق التنفس، وعندما ينتقلُ إلى الحديث عن التقدم في العمر يقارنُ نفسه بتهالك بيته الكائن على حافة مدينة روما. مشيراً إلى أنَّ هذا البيت، أظهر له تقدمه في السن، وهذا لا يثير لديه الحزن والحنين، بقدر ما يحدو به للتأمل في مصادر المتعة لهذه المرحلة، مستدعياً صورة من الطبيعة، فالفاكهة تكون ألذَّ عندما يقترب الموسم من الانتهاء، كما أن الكأس الأخيرة هي الأمتع عند الشريب المحنك. إذن كل متعة تحتفظُ بأعظم لذاتها لأواخرها. ويدور جزء آخر من الرسائل حول المؤثرات الخارجية، وما يجبُ تجنبه في حياتنا اليومية، إذ يصفُ الانجراف مع الحشود بالمخاطرة لأنَّه يزلزل السلام الداخلي ويحركُ الأشياء التي قد تخلص منها. طبعاً أن صدى هذه الفكرة موجود لدى باسكال، الذي يعتقد أنَّ السبب الوحيد لتعاسة الإنسان، هو قلة معرفته كيف يجلسُ في غرفته هادئاً، كما أن المرء لا يمكنُ أن ينجزَ شيئاً عظيما في رأي هيغل، إذا لم يكن مستقلاً عن الرأي العام.

يشار إلى أن صاحب «ظاهريات الروح» في طليعة من أعجبَوا بسينيكا ملمحاً إلى تأثيره الأعمق والأوسع على العقل المعاصر. لا ينصرفُ سينيكا عن مهمة الأمان الروحي، ويلفتُ نظر صديقه لوكيليوس إلى أنَّه قد استأجر فوق حمام عمومي لا تنقطعُ عنه الجلبة والضوضاء، غير أنَّ الانهماك بالعالم الباطني، أكسبه مناعةً، والطمأنينة الوحيدة في رأي هذا الفيلسوف مصدرها في النمو الحر للعقل السليم.

صفوة الحكمة

يستمدُ سينيكا مصادر معرفته من نصوص أسلافه، لاسيما من فلسفة أبيقور، إضافة إلى ما تفيضُ به التجربة الذاتية. ويتصفُ أسلوب سينيكا في تناول المواضيع المتنوعة بالحيوية، وتضفي مقتبسات واردة في تلافيف نصوصه بعداً تواصليا إلى فلسفته، موضحاً ما بدا معقداً بالنسبة للمُخاطَب، يوافقُ سينيكا الكاتب الرواقي هيكانو على ترابط بين الأمل والخوف، فبرأيه أن التوقف عن الأمل، يعني أن الخوف لا يتسربُ إلى دواخل النفس، والقلق لا يفسدُ صفاء التفكير وما يصعدُ من التوتر هو، الصراع مع ما تستعيده الذاكرة من الماضي، والخوف مما هو في طيات الغيب. تتمثل الوظيفة الأساسية للفلسفة في تنظيف العقليات الملوثة بالخوف من الموت، وتتقاطعُ رؤية سينيكا مع أفكار أبيقور حول الموت، فحالة ما بعد الكينونة لا تختلف عن العدم، الذي سبق لحظة الولادة لدى الاثنين. أكثر من ذلك فإنَّ سينيكا يفردُ مساحة للحديث عن أهمية الصداقة، والرغبة الفطرية لإقامة علاقات الصداقة مع الآخرين، غير أنَّ كل من تصحبهُ قد لا يستحقُ أنْ تضعه في خانة الأصدقاء، إذا لم تثقْ به كما تثق بنفسك. ولا تكمنُ المتعة في الحفاظ على الصداقات القديمة وحسب، بل من التواصل مع الأصدقاء الجدد، وذلك لا يعني أنَّ الرجل الحكيم ينفرُ من الوحدة ولا يتحملها، وفي الواقع هو لا ينقصه شيء، لكن يحتاج إلى أشياء كثيرة، وفي هذا المفصل تقع على عبارة مقتبسة من أبيقور الذي يعتقدُ أنَّ أي رجل لا يرى في ما يملكه، ما هو أكثر من كافٍ، رجل غير سعيد حتى لو كان سيد العالم. وما يقودُ الإنسان حسب فلسفة سينيكا هو التناغم مع الطبيعة، مؤمناً بضرورة تأسيس الحياة، وفقاً للطبيعة وليس على شاكلة ما هو سائد لدى الأغلبية. أضف إلى ما أسلفت الإشارة إليه، أنَّ هذا الفيلسوف يفضلُ أن يكون الإنسان جيداً، على أن تتراكم لديه معلومات غزيرة وُيعرَفُ بسعة اطلاعه، ويرى أنَّ من الحكمة قراءةُ الاكتفاء بعدد من الكتب، التي يمكنُ قراءتها بدلاً من امتلاك ما لا يسعُ العمر لمتابعته.

لا يفهم سينيكا الفلسفة بوصفها دعوة إلى التزهد، بل هي خريطة طريق إلى حياة بسيطة. تنفتحُ رسائل سينيكا على تناول الظواهر الحياتية والسلوكية ولا يثقلُ مضمون هذه المدونات بالنبرة الخطابية المعقدة، وذلك ما يضاعف من قيمتها العملية. ونحنُ بصدد الحديث عن الفلسفة العملية، فمن المناسب أن نشير إلى رأي الباحثة اللبنانية باسكال لحود، التي تؤكدُ أن الفلسفة يتجاذبها منذ العهد الإغريقي مفهومان: مفهوم «عالِم» نخبوي معرفيًّا، وفي بعض الأحيان اجتماعيّا، وآخر شعبي. وبالطبع فإنَّ اتاحة الفلسفة في الفضاءات العامة والرغبة في امتداد أحزمة الأمان العقلي، تتطلبُ الاشتغال على الجانب الشعبي في عملية التفلسف، ومن جانبها مابرحت الكاتبة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني من الدعوة إلى إعادة الفلسفة إلى مكان مولدها.. لقد ظهرت الفلسفة في شوارع أثينا على لسان سقراط. ما يجبُ قوله هنا أنَّ سينيكا تعرض للانتقادات، لأنَّ نمط حياته الباذخة، خالف خطابه الفلسفي، لكن تجربته في مواجهة الموت، ومؤامرة الخصوم عليه، تذكر بلحظة البطولة التي توجت مسيرة الفيلسوف اليوناني سقراط.