الكَاتبُ المِكسيكيّ خْوَانْ رُولْفُو..مَتَاهَاتُ الصَّمْت أو صَمْتُ المَتَاهَات !

الكَاتبُ المِكسيكيّ خْوَانْ رُولْفُو..مَتَاهَاتُ الصَّمْت أو صَمْتُ المَتَاهَات !

د. محمّد محمّد الخطّابي

“هواء التّلال”،.كتاب يحتوي على 81 رسالة كتبها الكاتب المكسيكي الذّائع الصّيت خوان رولفو ما بين 1946 و 1950، تكشف لنا عن جوانب غير معروفة فى حياة هذا الكاتب الكبير في شبابه، هذه الرسائل التي وجّهها إلى زوجته (كلارا أباريسّيُو) يحفل بالمعاني الجليلة،والمشاعر الجميلة،وصور المعاناة،ومشاهد الحياة اليومية القاسية لكاتب فى مقتبل العمر،

وشرخ الشباب، وريعانه، كان فى ذلك الإبّان لمَّا يَزَلْ نكرةً فى عالم الخلق، والعطاء، والإبداع، يقول الناقد الاسباني “كارلوس بلانكو أغينارا” عن هذا الكاتب المُبدع: إننا نجد في أدب رولفو دائماً شخصياتٍ مّا تتحدث، أو بالأحرى تهمس كما هو الحال في بطله “بيدرو بارامو”، ففي القصّة يصل “خوان برسيادو” إلى “كومالا” باحثاً عن والده، ويذرع الشّوارعَ الغارقة في ضبابٍ كثيف، ويكتشف أنّ مخاطبيه لا وجود لهم، إذ أنّهم في الواقع قد فارقوا الحياة منذ مدّة وهم الآن أرواح هائمة،تائهة تبحث عن أحد الأحياء لتصليِّ من أجله، ثم يكتشف “برسيادو” شيئاً آخر،غريباً ومثيراً للإنتباه، جميع الذين يلتقي بهم من الغرباء إلاّ أنّهم يعاملونه معاملة حميمية عائلية، لأنه في الواقع ينتمي لعالمهم، إذ يموت البطل بالفعل في الصفحة 73 من الكتاب، لكن القصّة تستمرّ باستعمال أصوات مستقلة.!

كلمات كأنّها مُجترّة بفعل هبُوب الرّياح

يؤكّد الناقد” خوان بيغورو” من جهته، أنّ خوان رولفو يفجّر الكلام العامي في البادية المكسيكية، وهو يحرص على أن تصل الكلمات إلى المتلقيِّ في طلاقة،وعفويّة، وتلقائيّة، وإنسياب ومن دون قيود، حيث تغدو كلماته وكأنّها مجترّة بفعل هبوب الرّياح. وفي قصص إحدى روائعه الأخرى وهي”السّهل الملتهب”، يكمن عمق وقوّة هذه القصص في حوارياتها وفي إطلاق العنان للضمير من عتمة الليالي الحالكة في شكل ذبذبات صوتية تكاد لا تُسمع، حيث يخيّل للسّامع وكأنّ ناطقيها لا صوت لهم. إنّها أصوات خالية من أدنى حشرجة أو ضجيج أو بهرجة،.وقد أشار بعض الدارسين لأعمال رولفو إلى أنّ الكاتب كان يستند إلى تجربته الشخصية،ويستقي من حياته الحميمية المُعاشة في حظيرة عائلته،أو مُحيطه،،فيعيد سرد الحكايات ذاتها التي سمعها من فم رجال قريته. إن قمّة معاناة رولفو تتجسّد بالفعل في هذا الأسلوب الآسر العميق المشحون بالأفكار المحيّرة، فقد إخترع رولفو طريقة رمزية لنعت هؤلاء المنكودين من المعذّبين في الأرض المنتشرين في أماكن،بعيدة هامشيّة، وفى أصقاع نائية مهجورة، إختفى فيها كلّ الناس، وإمّحى فيها كلّ أثر للحياة، إختفى كلّ شئ حتى كلابها، فلم يعد هناك من نباحٍ أو صياحٍ،أو نواح أو إجتياحٍ في وجه الصّمت القاتل المُطبق، بعض أبطاله أناس وشخصيات منبوذة في التاريخ، أناس غارقون في البؤس والتعاسة حتى أصبحوا لا يهابون أيّ شيء. في هذا الجوّ المضطرب، وفي خضمّ هذا العنف الخارجي للحياة في الأجواء البائسة والصامتة للقرى والمداشر المكسيكية النائية، تتحرّك هذه الشخصيات التي ينعكس عليها، وعلى طباعها، وتصرّفاتها كل ما تراه، أو تسمعه، أو تلمسه،أو تعيه.

رولفو بعيُون غُونتر غراس

عندما وصل خوان رولفو عام 1982 إلى قاعة المهرجان الأدبي العالمي ببرلين الغربية إكتشف أنه قد نسي نظارته للقراءة عن قرب، وصارالحضور من كلّ نوع، ومن مختلف أصقاع المعمورة يتطلعون إليه بشغف، ويترقبون ما سوف يقوله لهم صاحب “بيدرو بارامو”و” السّهل المُلتهب” الذي كان جالساً إلى جانب الشاعر الالماني الرّاحل مؤخّراً غونتر غراس، فاستعار رولفو نظارةَ غراس، وقال للحضور متواضعاً إنّه سوف يقرأ عرضه بعيون معلّمه..!.

إن رولفو مثل ثعلب صديقه الكاتب الهوندوري الكبير”أوغوستو مونطيرّوسو” الذي يطلب من الثعلب كتابة قصّة ثانية، ويكتب الثعلب قصة رائعة، ويعود ليطلب منه المعجبون به أن يكتب قصة ثالثة، وذلك في محاولة منهم لاستدراجه للفشل والتكرار، ويكتشف الثعلب المكيدة، ويقرّر إلتزام الصّمت. وهذا ما حدث لرولفو بالفعل، وكأنّ قصّة مونطيروسو مستوحاة من حياة رولفو نفسه، وهي مُدرجة ضمن مجموعة أوغوستو مونطيرّوسو التي تحمل عنوان “الشاة السوداء وحكايات أخرى”، لقد إلتزم رولفو الصّمت بعد أن أدرك قمّة سلّم المجد الأدبي بعمليه المقتضبين الرائعين “بيدرو بارامو”، و”السهل الملتهب”الذين أكّد بهما للعالم أجمع أنّ الأدب الحقّ هو بالفعل ما قلّ ودلّ، وليس بالهذر طوّلت خطبُه.

مِنْ عاملٍ فى مَصْنَعٍ إِلى مَقام سُوفُوكْلِيسْ..!

خوان رولفو لم يفكّر قطّ في حياته نشر كتاب “هواء التلال” المتضمّن لرسائله إلى زوجته ” كلارا “التي وجّهها إليها وهي بعد في مقتبل العمر. تحفل هذه الرسائل بالأدب الرفيع، والتحليل الدقيق لمجريات الحياة وتسجيل كل ما يجري ويدورحوله في تلك الفترة من حياته. في إحدى الرسائل التي كتبها رولفو لكلارا عام 1941، يقول عن أحد المصانع المطّاطيّة التي كان يعمل بها: “إنّهم (العمّال) ليس في مقدورهم رؤية السماء، يعيشون في الظلّ الذي يزداد ظلاماً وحلكةً من فرط كثافة الدّخان المتصاعد، يعيشون وقد إكتسب لونهم السّواد لمدّة ثماني ساعات متوالية خلال الليل والنهار، كما لو لم يكن هناك وجود للشمس أو السّحاب في السّماء، كما لو لم يكن هناك هواء نقيّ ليستنشقوه. هكذا دائماً من دون كلل حتى يوم مماتهم، حين يرتاحون. إنني أحكي لك عمّا يجري مع عمّال هذا المصنع الذي يغشاه الدخان من كل جانب،وتنبعث منه رائحة كريهة، ومع ذلك هم يعملون تحت رقابة مشدّدة كأن لم تكفهم تلك الماكنات العملاقة التي لا تعرف سلام التنفس، وأظنّ أنني لن أتحمّل طويلاً بأن أكون ذلك العريف الذي يريدونني أن أكونه في هذا المصنع. إن مجرّد التفكير في العمل بهذه الطريقة يزجّ بي في دهاليز أحزان لا قرار لها، ويجعلني أشعر بمرارة، إلاّ أنّ التفكير فقط في أنّكِ موجودة يُقصي عنّي تلك الأحزان، ويبعد عني تلك المرارة الكريهة”. وجاءت في إحدى الرسائل هذه المقطوعة: “اليوم جئت منك إليك مشدوداً إلى ظلِّك، متأملاً الليل، أنظر إلى السّحاب السّابح وسط الظلام كدموع تحيط بالقمر البهيج،الأشجار حالكة، والنجوم رخوة اليوم، رأيت كيف كان الليل عالياً جدّاً في كلّ مكان، وتوقفت أحدّق فيه كمن يتوقّف عن المشي بعد أن أضناه المسير”.”

على ضفاف وادي الحِجارة المكسيكي

تقول ” كلارا ” إنّ كتاب ” هواء التلال” الذي نشر بعد رحيل خوان رولفو، يلقي الضوء على العديد من القضايا التي لها صلة بكتاباته، وبه شخصياً مثل إدّعاء بعض النقاد بأنه كاتب برز في غضون سنتين، وأنه لم يكن يجيد الكتابة قبل ذلك، خاصّة أنه كان يعمل داخل مصنع للعجلات المطّاطية. و نكتشف في هذا الكتاب أن بعض مضامين قصصه التي حقّقت نجاحاً باهراً، وإنتشاراً منقطع النظير كانت تدور بخلده منذ ذلك الأوان، مثل قصته الشّهيرة “بيدرو بارامو”، حيث كان يفكّر في وضع عنوان آخر لها وهو “نجمة إلى جانب القمر” أو “همسات”. وتلقي هذه الرسائل الضوء من جهة أخرى على كيفية ولادة هذا الكاتب، كما تتضمّن حقائق مثيرة عن حياته في طور الشباب تتنافى مع ما قيل عنه في بلده المكسيك. وتشير” كلارا “إلى أنّ زوجها كافح،وناضل، وعمل كثيراً حتى أصبح كاتباً ذا شأن كبير في بلده، إنه كان في حاجة إلى مَن يشدّ أزرَه وسط هذا الخضمّ الهائل، وكانت كلارا تشجّعه على المضيّ قدماً في السبيل الذي إختاره لنفسه،وكانت تقول له دائماً: “كافح من أجل شيء أحببته”.

لقد أحبّ رولفو كلارا عندما كانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر ربيعاً، واشترطت عليه أن يتريّث ويصبر مدّة ثلاث سنوات ليصبحا خطيبين. وكان رولفو قد تعرّف على زوجته في محل لبيع المثلجات (البوظة) في مدينة “وادي الحجارة” لمكسيكية، وكانت تصغره بعشر سنوات. وتشير كلارا إلى أنّ جميع الرسائل التي وجّهها إليها زوجُها تحتلّ مكاناً خاصا في قلبها، وقد قرأتها عدّة مرّات وكانت تحتفظ بها، من دون علم منه، حيث لم يسألها قطّ عنها. قال لها ذات مرّة عندما أهداها أحدَ كتبه: هذا الكتاب مكتوب على هيئة صورتك، ولقد تألقت صفحاته بقلبك.

تعرّض رولفو لتهجمات عنيفة من طرف معاصريه من الكتّاب المكسيكيين، وقد بلغ به الأمر في بعض الأحيان أن مزّق قصصاً كان قد كتبها من فرط حزنه، وتعاسته،ونكده. لقد كتب ذات مرّة يقول لزوجته في هذا السّياق: “إننا نعيش في عالم تملأه البقرات الهزيلة، حيث نرى أنّ الفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء تنتقص وتبتزّ ثرواتهم، إلاّ أننا لم نختر هذا الزّمن الذي نعيشه، بل لقد فُرض علينا فرضاً، لقد وُلدنا بأعجوبة، وترعرعنا بأعجوبة، وهذه الحياة التي ما زالت توهب لنا هي شيء شبيه بالمعجزة، ولهذا فأنا لا أشكّ، خاصّة الآن، أننا نحن الاثنين معاً، سنصبح قوّتين لنتحمّل قوة الحبّ والسعادة، أو ثقل الحزن والألم أو أي شيء آخر قادم، هكذا سنكون أنا وأنت صديقين حميمين يُدعيان كلارا وخوان، سنكون كصخرة صامدة في وجه التيّارات العاتية، والأنهار الجارية الجارفة، متآزرين بثبات ضدّ كلّ شيء، سنضع أو نصنع عالماً خاصاً بنا، عالمك وعالمي، هذا ما أرجوه لك، أن أمنحك كلّ ما هو موجود، إلاّ أنه يتعذّر علينا أن نصبح مثل الآلهة، فنحن لسنا سوى مخلوقات بشرية تعيسة، وعلينا أن نطلب من الخالق أن ينظر إلى حالنا. “

غارسيا مركيز وخوان رولفو

لقد وصف الكاتب الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز (الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب 1982) الثلاثمائة صفحة التي تتألف منها أعمال رولفو، بأنّها قد وضعته في مصافّ أعمال سوفوكليس. ويرى الكاتب الاسباني خوان بونيا أن الفرق بين رسائل خوان رولفو إلى كلارا أبارسيُّو، ورسائل غوستاف فلوبير إلى لويز كويير واضح، فأنت في مقدورك أن تقرأ رسائل فلوبير وتستمتع بها بصمت حتى ولو لم تكن قد قرأت “مدام بوفاري”، إلاّ أنّ الذي لم يسبق له أن قرأ “بيدرو بارامو” أو “السّهل الملتهب” ويشعر بالتالي بإعجاب كبير مسّبق نحو هذا الكاتب الفذّ، قد لا يستمتع بعمق بهذه الرسائل الفريدة.

يقول رولفو عن عائلته:كانت أسرة متعدّدة الأفراد، لم يعيشوا قطّ فترات سلام في حياتهم، كانوا كلّهم يموتون في سنّ مبكّرة،وجميعهم ماتوا بطعنة من الخلف، وأنّ أحدَ أفراد عائلته، وهو دافيد قتله جواد والده، مات مغتالاً مثل إمليانو ساباتا، وسانشو فيّيا، كلّهم ماتوا على أثر كمين نُصِب لهم، كلّهم ماتوا في الثالثة والثلاثين من عمرهم.!

كم أنت محقّ يا “غابرييل ” أجل..ثلاثمائة صفحة فقط من الإنتاج الأدبي المُبدع وضعت هذا العامل البسيط فى مصنع للعجلات المطّاطية وهو” خوان رولفو” في مصافّ أحد أقطاب المسرح اليوناني الشّهير سوفوكليس. ولا عجب إن كان الذي يقول هذا هو الكاتب العالمي الحاصل على نوبل فى الآداب،”غابرييل غارسيا ماركيز ” نفسه، خاصّةً إذا علمنا أنّ بلديّه ومواطنه الكاتب الكولومبي الكبير الراحل “ألفارو موتيس” عندما أهدى إليه لأوّل مرّة كتاب “بيدرو بارامو” لرُولفو، ناوله إيّاه وهو يقول له: خُذْ تعلّم.!

*كاتب،وباحث، ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- (كولومبيا).

عن جريدة القدس العربي