«دفاتر» خوان رولفو.. نجت من نزعته الجارفة لتدمير المسودات والمخطوطات

«دفاتر» خوان رولفو.. نجت من نزعته الجارفة لتدمير المسودات والمخطوطات

شوقي الريّس

في عام 1955 صدرت للمكسيكي خوان رولفو روايته الثانية بعنوان «بيدرو بارامو» التي تدور حول الشواغل والهواجس الاجتماعية والنفسية لسكان الأرياف بعد الثورة المكسيكية. يومها كان رولفو، الذي توفي في عام 1986 مصاباً بسرطان الرئة، في الثامنة والثلاثين من عمره،

ومنذ ذلك اليوم انقطع نهائياً عن الكتابة رغم أن روايته تلك لاقت نجاًحا منقطع النظير بين القراء والكتاب والنقاد الذين اعتبروها من عيون الأدب الأميركي اللاتيني والعالمي.

لكن تبين بعد وفاته أن رولفو لم يتوقف عن الكتابة بعد صدور روايته الشهيرة، كما لم يتوقف عن القراءة، التي كانت شغفه الأول الذي تشهد عليه مكتبته التي كانت تضم 15 ألف مجلد في التاريخ والهندسة والأدب والجغرافيا والأنثروبولوجيا، والتي قال عنها: «أكتب كالهواة وأقرأ كالمحترفين». مطالعاته تلك تركت لنا مجموعة كبيرة من الخواطر المدونة باليد في عدد من الدفاتر التي «نجت» من نزعته الجارفة إلى تدمير المسودات والمخطوطات، والتي تحتفظ بها العائلة جزءاً من الأرشيف الذي تشرف عليه المؤسسة التي تحمل اسمه، والتي كشف مؤخراً عن أنها تتفاوض على نشر بعضها مع وكالة «كارمن بلاسيلز»، الإسبانية التي كانت وراء نشر الأعمال الأولى لكبار الأدباء الأميركيين اللاتينيين، مثل غارسيا ماركيز، وفارغاس يوسا، وخوليو كورتازار.

في خواطر رولفو المدونة بخطه الرفيع المائل بحثٌ ومراجعة في الأدب البرازيلي، وآخر في الأدب المكسيكي، يرجح أنها تعود لأربع سنوات قبل وفاته، وأنها كانت آخر ما كتبه. ويقول مدير المؤسسة، فيكتور خيمينيز، إن الأبحاث التي أجراها الاختصاصيون الذين يراجعون أرشيف رولفو تبين أن هذه المخطوطات هي تكملة لنصوص سابقة، منها مقدمة رواية للكاتب البرازيلي خواكيم ماريا ماتشادو، ومحاضرة ألقاها رولفو في جامعة هارفارد عام 1981 حول الأدب المكسيكي. وستكون هذه الأعمال، التي ستصدر في الخريف المقبل، الأولى التي تُنشر له منذ عشرين عاماً بعد صدور «رسائل إلى كلارا» التي تضمنت المكاتبات الغرامية التي تبادلها رولفو في أربعينات القرن الماضي مع التي أصبحت زوجته فيما بعد.

منذ صدور روايته الشهيرة «بيدرو بارامو»، لم ينشر رولفو أي عمل روائي، باستثناء قصة صغيرة بعنوان «الديك الذهبي» في إحدى المجلات الأدبية، ومع مرور السنين تحول امتناعه عن النشر إلى أسطورة، في المكسيك وخارجها، ساهم هو في تغذيتها وإضفاء هالة من الألغاز والأسرار حولها. وعندما سئل مرة عن سبب توقفه عن النشر أجاب: «بعد وفاة العم سيليرينو لم يعد هناك من يقص عليّ أجمل الحكايات». لكن العم سيليرينو لم يكن هو صاحب المقاطع الشاعرية الساحرة التي وصف بها رولفو عالم الأرياف المكسيكية، ولا توقف هو عن الكتابة. وكما يتبين من الأبحاث الأخيرة في أرشيفه، انكب سنوات عدة في الستينات على كتابة رواية، أشار إليها في إحدى المقابلات وقال: إن أحداثها «تدور في زمن الاستعمار الإسباني وتسرد حياة عائلة تعيش معضلة النفس البشرية وتلجأ لكاهن عصبي المزاج لمعالجتها».

لم يلتحق رولفو بالجامعة سوى بضعة أشهر، لكنه عُرف بعصاميته عن طريق المطالعة الدؤوب واكتساب المعرفة بدقة وصرامة في حين كان يكسب رزقه بائعاً متجولاً ثم موظفاً حكومياً. ويتبدى تبحره بوضوح في مقالات البحث التي نشرها في الكثير من المجلات المتخصصة والمحاضرات التي ألقاها حول آداب الولايات المتحدة، ويوغوسلافيا، والمجر، والبلدان الإسكندنافية، وبخاصة حول الأدب البرازيلي. أما اطلاعه الواسع والعميق على الأدب المكسيكي، فقد جعل منه مرجعاً يخشاه الكتاب والنقاد على السواء.

كان رولفو يولي اهتماماً خاصاً بالشعوب الأرومية وبطقوسها ومعتقداتها، وبعلاقة الإنسان بالأرض والطبيعة. وكانت شخصيات رواياته نادرة الحركة، يكتفي بدفعها إلى التفكير والتذكر والإفصاح عن مخاوفها وغضبها وحقدها وندمها.

يروي غارسيا ماركيز في مذكراته ما يلي: «صعد صديقي آلفارو موتيس سلالم الطبقات السبع في المبنى الذي أسكن فيه حاملاً تحت إبطه حزمة من الكتب أخذ أصغرها وناولني إياه ثم قال ضاحكاً: اقرأ هذه الرواية وتعلم! كانت تلك رواية (بيدرو بارامو) التي لم تغمض عيناي تلك الليلة قبل الانتهاء من قراءتها الثانية. منذ قراءتي رائعة كافكا (المسخ) في بيت الطلاب الذي كنت أسكنه في بوغوتا لم أشعر بمثل الانفعال الذي شعرت به تلك الليلة».

ويقول الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: «(بيدرو بارامو) من أفضل الروايات الأميركية اللاتينية، لا بل العالمية». أما الكاتبة والمفكرة الأميركية سوزان سونتاغ فقد كتبت في آخر بحث أدبي طويل نشرته قبيل وفاتها في فرنسا تقول: «... ليست رواية (بيدرو بارامو) من قمم الأدب العالمي فحسب، بل من أكثر الكتب تأثيراً في القرن العشرين».

عن الشرق الاوسط