كيف ألف الكرملي كتابه (ديوان التفتاف)؟

كيف ألف الكرملي كتابه (ديوان التفتاف)؟

د. علي القاسمي

« ديوان التفتاف أو حكايات بغداديّات» صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 2003 بـ 740 صفحة من الحجم الكبير بعد أن جمعه وشرحه وعلّق عليه الأستاذ عامر رشيد السامرائي. يتضمَّن الكتاب 52 حكاية من الحكايات الشعبيّة التي ترويها النساء في بيوتهن للأطفال.

والحكايتان الأخيرتان لا ينطبق عليهما مفهوم الحكاية الشعبيّة، وإنَّما هما وصف للتقاليد والعادات والمعتقدات والأزياء البغداديّة في مناسبتَي (الزواج) و (الموت). وليس لهذه الحكايات عناوين، وإنّما أرقام. (تماماً مثل الحكايات الشعبيّة التي جمعها الأخوان غريم، فقد كانت في الطبعة الأولى بلا عناوين، بل تحمل كلُّ حكايةٍ رقماً تسلسليّاً).

ويبدو أنَّ اهتمام السامرائي في تراث الكرملي قديم يعود إلى أوائل الستينيّات، وأنه حقَّق « ديوان التفتاف « أو شرع في تحقيقه منذ ذلك الحين. فقد لاحظ أحد الباحثين ذلك وقال: « ومن الغريب... أنَّني وجدت الأستاذ كوركيس عواد يشير في كتابه عن الأب الكرملي الذي صدر ببغداد سنة 1966 إلى أنَّ الأستاذ عامر رشيد السامرائي قد حقّق هذا الكتاب، وأعدّه للنشر... ومكمن الغرابة هو أن بين التاريخَين [تاريخ إشارة عواد وتاريخ نشر الكتاب] سبعاً وثلاثين سنة، وهي مدّة طويلة جدّاً لصدور كتاب، ولعلَّ هناك أسباباً يجهلها الباحث» . ويمكن القول بكلِّ موضوعية إنَّ المحقِّق الكريم الأستاذ السامرائي بذل جهداً متميزاً في تحقيق الكتاب، وكتابة مقدِّمة ضافية عن حياة الأب الكرملي وأعماله، وشرح ألفاظ حكاياته وتحليلها، والتعليق عليها. فقد لاحظ في تحليله أنَّ لغة القاصِّ تضطرب أحياناً فيستعمل بعض الألفاظ التي لا تُستعمَل في اللهجة البغداديّة، أو يستعملها بمعنى مختلف، أو يكتبها بطريقة لا تمثّل نطقها؛ واستنتج من ذلك أن راوي بعض تلك الحكايات لم يكن بغداديّاً أصيلاً. كما ضبط المحقِّق الفاضل الكلمات بالشكل لتسهل قراءتها، وصحَّح النصوص الشعريّة الغنائية التي وردت في القصص والتي وقعت فيها بعض الأغلاط.

كان الأب الكرملي قد ترك الكتاب مخطوطاً في نسختَين تقع كلٌّ منهما في 496 صفحة، تحمل إحداهما عنوان « ديوان التفتاف « والثانية « ديوان التفتاف أو حكايات بغداديّات». وكلا العنوانَين بخط الأب الكرملي، وقد اختار المحقق الفاضل عنوان النسخة الثانية.

ويشرح لنا الأب الكرملي في هامش صفحة الغلاف الداخليّ للنسخة الأولى معنى « التفتاف « نقلاً عن معجم « تاج العروس « للزبيدي» على الوجه التالي:

« في التاج: التَفْتَاف مَن يلقط أحاديث النساء كالمتفتف. والجمع تفتافون وتفاتِف.»

وفي تصدير الكتاب، يبيّن لنا الأب الكرملي مضمون الكتاب، إذ كتب:

« تصدير

بعد حمد الله تعالى والثناء على آلائه الجمة، أقول، وأنا الفقير إليه تعالى، الأب أنستاس ماري الكرملي، كنتُ قد عُنِيتُ، منذ عودتي من ديار الإفرنج إلى مسقط رأسي بغداد، بجمع ما يرويه بعض العوام من ضروب الحكايات بلهجتهم العاميّة البدويّة الإسلاميّة. ولما اجتمع عندي منها قَدْرٌ يستحقُّ التبييض، دفعتُها إلى أحد النُسَّاخ لينقلها بقلمه الجليّ الواضح، فجاءت بهذه الصفحات... بغداد في سنة 1933 في 7كانون الأول منها»

نستخلص من هذا التصدير المعلومات التالية:

1ــ إنّ الأب الكرملي يعتزّ بتقاليد التأليف العربيّة فيبدأ كتابه بـ « بعد حمد الله تعالى والثناء على الآئه الجمة» ويقدّم اسمه بعبارة « وأنا الفقير إليه تعالى» وهي ذات العبارات التراثيّة التي يستعملها فقهاء المسلمين آنذاك في مؤلَّفاتهم.

2ــ إنّ العمل في جمع هذه الحكايات واستنساخها استمر 39 سنة من سنة 1894 إلى سنة 1933، طبعاً إلى جانب انشغالاته الأخرى.

3ــ إنّ الأب الكرملي كان قد خطَّط أثناء دراسته العالية في فرنسا للمجالات المعرفيّة التي سيشتغل فيها بعد عودته إلى بغداد.

4ــ إنّ الأب الكرملي، بوصفه متضلِّعاً من فقه اللغة الحديث، آنذاك، يجمع الحكايات من «اللهجة العاميّة البدويّة الإسلاميّة» التي قد تختلف صوتيّاً وصرفيّاً ودلاليّاً عن اللهجة العاميّة العراقية المدنيّة النصرانيّة أو اليهوديّة التي جمع أمثالها وحكاياتها في كتاب آخر. وهذا الاختلاف ناتج من المبدأ اللساني القائل بتأثُّر اللهجات الاجتماعيّة للغة بالثقافات الفرعيّة للثقافة الواحدة داخل القطر الواحد.

في موضع لاحق من التصدير، يبيّن لنا الأب الكرملي أنّه طلب من الناسخ أن يضيف إلى الكتاب « أنواع الحكايات التي تُروى في مجالس النساء في كلِّ بيت» مقابل أجر إضافي ليشجَّعه على ذلك. ويخبرنا الأب الكرملي أنَّ « هذا الفنّ يعرف عند الإفرنج بالكلمة Folklore ومعنى Folk قوم وجمع ومعنى Lore معرفة، فيكون محصّل اللفظ الإنكليزيّ علم القوميّات.” (21)

وهكذا فهو لا يخفي أن اشتغاله بالتراث الشعبيّ ناتج عن تأثُّره بالثقافة الأوربيّة واحتكاكه بها ومحاكاته لها.

طبيعة حكايات الكتاب :

حكايات الكتاب هي حكايات ترويها النساء، فهي تختلف عن الحكايات التي يرويها الرجال في مجالسهم أو مقاهيهم أو بعض الساحات العامّة مثل حكاية سيف بن ذي يزن، وحكاية عنتر بن شداد وحكاية الزير. كما أنّها حكايات تُروى للأطفال في الأُمسيات لتزجية الوقت في زمن لم يكُن فيه مذياع ولا سينما ولا تلفاز ولا حاسوب. ولهذا فإنَّ هذه الحكايات تتّسم بالإطالة. وكلّ حكاية تبدأ بعبارة (هناك ما هناك) وهي تقابل عبارة (كان يا ما كان)، وتنتهي بعبارة (كنا عندكم وجئنا) وهي إشارة الختام. ومن أجل التشويق تستخدم هذه الحكايات كثيراً من الجنّ، والساحرات، والخوارق، والحيوانات الناطقة، والحيوانات التي تُمسَخ بشراً وبالعكس. وهذه العناصر السحريّة ليست وقفاً على الحكايات الشعبيّة العربيّة، بل نجدها في الحكايات الألمانيّة التي جمعها الأخوان غريم، وفي الحكايات الدنماركيّة التي جمعها هانس كرستيان أندرسون في القرن التاسع عشر نفسه(22). ولما كان الراوي تنقصه الخبرة الفنيّة في السرد، فإنَّ القصص ضعيفة الحبكة، والوصف فيها نادر، والشخصيات والأماكن غير محدَّدة المَعالِم، ما يُطلِق خيال السامع، ويترك له الحريَّة في تصوّر التفاصيل. وتتضمَّن هذه الحكايات بعض الخصال الإنسانيّة السلبيَّة كالغيرة والحسد والرغبة في الانتقام بحيث يضطر البطل إلى مقاومة الشرِّ والانتصار عليه في النهاية.

يبدو لي أنَّ الأب الكرملي، بعد أن جمع في كُتُبٍ الحكاياتِ والأمثالَ والأغاني الشعبيّة بلهجتها العاميّة، أدرك مدى الضرر الذي تسبّبه هذه الكُتب لدعوته إلى صيانة العربيّة الفصحى ونشرها واستعمالها، فأحجم عن نشر تلك الكُتُب، فبقيت مخطوطةً بعد وفاته. والدليل على ذلك أنه نشر أثناء حياته 23 كتاباً من مؤلَّفاته، ليس من بينها كتابٌ واحد باللهجة العاميّة، وإنّما جميعها باللغة العربيّة الفصحى (28). وكان في ميسوره ـ أثناء حياته وقد تبوأ مكانة اجتماعيّة مرموقة تؤهِّله للمشاركة في تأبين الملك الراحل فيصل الأول ـ أن ينشر كتبَه المخطوطة المتعلِّقة بالأمثال العاميّة، والأغاني العاميّة، والحكايات العاميّة. ولكنّه لم يفعل وفضّل تركها مخطوطةً.

عن كتاب: العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق